اختلف الفقهاء في حكم الضرب بالدف في الأعراس، على ثلاثة أقوال كما يلي:
القول الأول: لا يجوز ضرب الدف في غير الأعراس:
وبه قال بعض الحنفية, وهو مشهور مذهب المالكية، وأحد الوجهين عند الشافعية, وقال بكراهته بعض الحنابلة (40).
الأدلة:
1. ما ورد " أن عمر رضي الله عنه كان إذا سمع صوت الدف بعث فنظر، فإن كان في النكاح والختان سكت، وإن كان في غيرهما عمد بالدرة " وفي رواية " فإن كان في وليمة سكت وإن كان في غيرهما عمد بالدرة"(41).
ويجاب عن هذا الاستدلال: بأنه قد ورد عن عمر رضي الله عنه – كما في هذا الأثر عدم الإنكار على من ضرب الدف في الختان، وهو موضع آخر غير العرس, فدلّ على عدم اختصاص العرس بجواز الضرب فيه بالدُفّ.
2. ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال " الدف حرام والمعازف حرام والمزمار حرام والكوبة حرام "(42)
ووجه الدلالة من هذا الأثر: أنه دل على تحريم الدف عموما ويستثنى منه ماورد به النص الصريح وهو العرس فيبقى ما عداه على أصل التحريم(43).
و أجيب: بأن هذا الأثر ضعيف, وكذلك فإن هناك من الصحابة من خالف ابن عباس في ذلك (44).
3. ما ورد عن إبراهيم النخعي: " أن أصحاب ابن مسعود كانوا يستقبلون الجواري في المدينة معهن الدفوف فيشققونها" (45)
و أجيب عنه بما أجيب عن الأثر الذي قبله (46).
القول الثاني: يجوز ضرب الدف في غير الأعراس وذلك في مواطن إظهار السرور فقط وما عداها فلا يحل ضرب الدف فيه ومن مواطن السرور: يوم العيد, وقدوم الغائب والختان ونحوها من أسباب الفرح التي أباحها الشرع.
وإليه ذهب كثير من الحنفية, وهو القول المقابل للمشهور من مذهب المالكية, وهو الأصح عند الشافعية, وبه قال بعض الحنابلة(47).
الأدلة:
1. ما ورد عن بريدة أنه قال: "لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض مغازيه، جاءته جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني نذرت إن أرجعك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدُّف, فقال لها: إن كنت نذرت فأوف بنذرك"(48).
ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالوفاء بنذرها، ولو كان ضرب الدف في هذه الحالة معصية لمنعها منه، فدل على جواز ضربه في هذه الحالة وهي الابتهاج بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم سالماً من هذه الغزوة. وقيس على ذلك كل موضع سرور أباحه الشرع.
2. ما روته عائشة رضي الله عنها: " أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه، فأنتهرهما أبو بكر فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه فقال دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد، وتلك الأيام أيام منى" (49).
ووجه الدلالة من هذا الحديث: إباحة الضرب بالدف وسماعه يوم العيد، وهو من مواضع السرور المباح
3. ما ورد أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان إذا سمع صوت الدف بعث فنظر فإن كان في وليمة أو ختان سكت، وإن كان في غيرهما عمد بالدرة(50).
ووجه الدلالة: أن هذين الموضعين – العرس والختان – من مواضع السرور فما ليس من مواضع السرور، فلا يصح ضرب الدف فيه ولا سماعه.
ويجاب عن هذا الاستدلال بأنه معارض بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أجاز للجارية أن تضرب بالدف عند قدومه، وهو أمر آخر غير العرس والختان. والله أعلم
4. أن ما كان سبباً لإظهار السرور جاز الضرب عليه بالدف كالولادة والعيد وقدوم الغائب وشفاء المريض(51) ويبقى ما عداها على المنع العام لاستعمال المعازف.
القول الثالث: إباحة الضرب بالدف مطلقاً.
وبه قال الغزالي والرافعي من الشافعية، وهو ظاهر كلام النووي في المنهاج، وبه قال ابن حزم(52).
الأدلة:
1. ما نقل عن الغزالي أنه حكى الاتفاق على إباحة الضرب بالدفّ مطلقاً(53).
و أجيب عن دعوى الاتفاق: بعدم التسليم قال ابن حجر الهيثمي " لكن حكاية الاتفاق على الإباحة معترضة بما مَرّ، أن جماعة كثيرين من أصحابنا, قالوا بحرمته في غير العرس والختان "(54).
أ- قوله صلى الله عليه وسلم للجارية التي نذرت أن تضرب بالدف إن أرجعه الله سالماً " إن كنت نذرت فأوف بنذرك"(55).
ووجه الدلالة: أن الضرب بالدّف لو كان محرماً لمنعها منه صلى الله عليه وسلم إذ لا نذر في المعصية لقوله صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه " (56).
ب- أنه قد ورد أحاديث عدة في جواز الدف كما في العرس والأعياد والختان وقدوم الغائب فلا يبقى الدف بعد ذلك من المعازف المنهي عنها، بل يكون له حكم مستقل بالإباحة، وهذا أولى من إدخاله تحت عموم المنع من المعازف.
الترجيح:
أما القول الأول: فلا يسلَّم لهم بدعواهم لثبوت النصوص على خلاف قولهم.
أما القول الثاني: فقد استدلوا بأدلة ظاهرة وصحيحة على ما ذهبوا إليه من المواضع التي يباح ضرب الدف فيها وسماعه, لكن الشأن فيما عداها.
والذي يظهر لي –والله أعلم– أن المسألة تدور بين كون الدف معزفاً, وإذا كان كذلك فالأصل فيه التحريم إلا فيما استثناه النص, وكون الدف ليس من المعازف أصلاً, وبالتالي فله حكم خاص به, نظراً لكثرة النصوص الواردة بحلِّه.
ويظهر لي – والله أعلم – أن الأمر الثاني أرجح لأن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يأت دليل يمنع من ذلك؛ لأن كثرة الاستثناء للشيء مشعر بأن له حكماً مغايراً لغيره, ولا شك أن المناسبات التي وردت فيها النصوص أولى بالجواز من غيرها, لكن لا يعهد في الشريعة حل أشياء في مناسبات الفرح دون غيرها. والله أعلم