مرّ الشيعة خلال مسيرتهم التاريخية بمراحل صراع سياسي وجهاد عسكري متعددة ومتعاقبة، ضد مختلف أشكال أنظمة الحكم والهيمنة التي تسلطت على رقاب أمة المسلمين باسم الدين والدستور، وتعرض الشيعة خلالها لألوان الأذى والعدوان، وقد أصيبوا وأصابوا، والحرب سجال كما يقال، ولكنهم احتملوا أكثر من غيرهم.
وكان للشيعة خلال تاريخهم مواقف مشهودة، وبطولات مرصودة، تشعبت وتفرقت وانتشرت يميناً ويساراً، في مصادر التاريخ المختلفة.
إن الحديث عن تاريخ الشيعة إنما هو مسألة في غاية الأهمية، ذلك لأن التاريخ بمجمله هو حياة الشعوب والأمم، بما في ذلك أمة المسلمين، فتاريخ الشيعة جزء لا يتجزأ من مسلسل مسيرة التاريخ الإسلامي على امتداد الـ14 قرناً ونيف المنصرمة، ووقائع وأدوار التاريخ الشيعي لا زالت تشغل إلى اليوم أثراً وحيزاً هامين في المجالين الديني - العقائدي، والواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للعالم الإسلامي على صعيديه الشعبي والرسمي.
اتخذ جهاد الشيعة أحياناً شكل الثورة من أجل وضع المبادئ والتعاليم، موضع التنفيذ العلمي الإيجابي، وقد اعتاد المسلمون أن يحيوا حياة ديمقراطية وتمسكوا أبداً بحرية الرأي والتعبير، لما كفلته تعاليم الإسلام الرشيدة. وعلى امتداد فترتي حكم الدولة الأموية (41-132هـ/661-750م)، والدولة العباسية (132-656هـ/750-1258م) شهد جهاد الشيعة قيام حركات وثورات عديدة ومتتالية، اتخذ الغالب منها طابع المقاومة المسلحة، وشاركت فيها معظم تشكيلات الجماعات الشيعية بمختلف قواها السياسية وقواعدها الجماهيرية العريضة الناقمة والغاضبة، وانعكست هذه الثورات على مجمل الأحداث السياسية في التاريخ الإسلامي، وكان لها شأنها وتأثيرها في المجالات الحضارية، وخاصة الدينية والفكرية، وكان من نتاج هذه الثورات والانعكاسات دولة إسلامية عظمى هي الدولة الفاطمية التي يفخر كل مسلم بحضارتها وبدورها العالمي، إذ لا زالت القاهرة عاصمة مصر، وجامعة الأزهر العريقة فيها، تشهدان على أمجاد الفاطميين، وكذا الحال بالنسبة لبلاد المغرب وساحة شمال أفريقيا التي شهدت قيام عدة دول شيعية – علوية كانت بمثابة خيمة ومظلة آمنة لعموم شعوب أمة المسلمين، كدولة الأدارسة ودولة الحموديون، إضافة إلى دول أخرى شهدتها ناطق وأقاليم أخرى من الخارطة الجغرافية للبلاد الإسلامية المترامية الأطراف، كالدولة البويهية في إيران والعراق والدولة الحمدانية في سوريا وشمال العراق والدولة الزيدية في اليمن.. وغيرها.
استفادة الدعوة العباسية من جهاد الشيعة في العصر الأموي
استترت الدعوة العباسية وراء الدعوة للرضا من آل محمد(صلى الله عليه وآله)، بعد أن عهد أبو هاشم بن محمد بن الحنفية من أبناء الإمام علي بن أبي طالبt، بوصيته وعهده إلى محمد بن علي العباسي(1)، وقد استفاد العباسيين من جهود الشيعة التي بذلوها طوال العصر الأموي، وقد كان كفاحهم وثوراتهم من معاول هدم الدولة الأموية وهدف الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) والمناداة بحقهم الشرعي والتاريخي في حمل لواء الإسلام وحكم المسلمين، وهو ذات الشيء الذي استغله العباسيون لصالح مخططاتهم ومشاريعهم السياسية، وكسبوا به ولاء كثير من المسلمين الذين يريدون تحويل الخلافة إلى البيت الهاشمي، أي بيت الرسول (صلى الله عليه وآله)، وخاصة الموالي الفرس(2).
وخلال فترة انتشار الدعوة العباسية (100-132هـ) قامت ثورات شيعية عنيفة، شغلت لحد كبير الأمويين من التفرغ لمواجهة الدعوة العباسية الآخذة في الاتساع والانتشار، كما استنفذت هذه الثورات كثيراً من جهود الدولة الأموية، مما دعم الدعوة العباسية، وأوصل دعاتها وقادتها العباسيين إلى سدة الحكم وقيادة دولة المسلمين تحت عنوان ولافتة الرضا لآل محمد(عليهم السلام) والانتصار للشيعة والعلويون منهم على وجه التحديد، ورفع الظلم والغبن اللذان لحقا بهم.
وتطورت الأمور، وأثمر الكفاح وسقطت الدولة الأموية سنة 132هـ/750م، وقام حكم الدولة العباسية، واتضحت الحقيقة وتبلورت الأوضاع مسفرة عن تنكر زعماء بني العباس لكل الشعارات والوعود التي قطعوها على أنفسهم، فثارت أشجان العلويين، وظهر السخط لدى عموم الشيعة على العباسيين، وأدركت الشيعة أن العباسيين قد استفادوا من جهودهم، وأنهم خدعوهم باستئثارهم بالخلافة والحكم دون العلويين، مما أدى إلى قيام حركات الشيعة الثورية التي شهدها العصر العباسي، والأول منه بالذات.
دول الشيعة
على مدى قرون طويلة من تسلط بني أمية وبني العباس على زمام دولة المسلمين، وكنتيجة للمعارضة السياسية المتواصلة، والمقاومة المسلحة العنيدة، من جانب الشيعة بقيادة العلويين، فقد أثمرت جهودهم عن نجاحات عدة تمثلت بإقامتهم عدة كيانات سياسية مستقلة، تطورت أشكالها واتسعت رقعتها الجغرافية تدريجياً لتصبح دولاً هامة وبارزة في الخارطة الإسلامية والعالمية وقتذاك، يحسب لها خصومها وأعداءها ألف حساب، ولم يكن من السهل اليسير احتواء هذه الدول أو القضاء عليها، إذ أن العديد منها ترسخت واستعصى أمر التغلب عليها، وكما هو الحال بالنسبة للدولة الفاطمية والدولة الأدريسية والدولة البويهية.
دولة الأدارسة في بلاد المغرب
- حركتا إدريس ويحيى ابني عبد الله في عهد الخليفة العباسي هارون:
شهد عهد الخليفة هارون العباسي حركتين شيعيتين قام بهما أخوان هما إدريس ويحيى ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن الإمام علي بن أبي طالب(عليهم السلام). فقد قام يحيى بحركته في المشرق الإسلامي (بلاد الديلم - إيران) بينما ثارت حركة أخوه إدريس في بلاد المغرب الإسلامي. والأخوان هما شقيقا محمد النفس الزكية وإبراهيم اللذان أعلنا ثورتهما على عهد الخليفة المنصور، وسالت دماؤهما في المدينة المنورة ببلاد الحجاز والبصرة جنوب العراق.
- حركة إدريس بن عبد الله:
نجا إدريس بن عبد الله (كما أخوه يحيى)، في موقعة فخ الدامية، التي ترتبت على الانتفاضة الشيعية ضد حكم الخليفة العباسي موسى الهادي والتي شهدتها مكة بقيادة العلوي الثائر الحسين بن علي ابن الحسن المثلث ابن الحسن المثنى ابن الحسن بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام)، سنة 169هـ والتي استشهد فيها ما يقارب من مائة شهيد من أهل بيته.
وفي الوقت الذي لجأ فيه يحيى إلى بلاد الديلم في إيران، لجأ أخوه إدريس باتجاه الغرب، فخرج مع مولى له يدعى راشد وانضما إلى قافلة حجاج مصر ومنها توجه إلى المغرب التي استقرّ فيها.
- بدايات تأسيس الكيان السياسي للدولة الأدريسية:
حين وصل إدريس بن عبد الله المغرب، استقر في مدينة (وليلى) عند كبيرها عبد الحميد بن إسحاق الأوربي في غرة ربيع الأول سنة 172هـ (788م)، فدعا عبد الحميد عشيرته أوربه – وهي أكبر عشائر البربر – لبيعته، فكانوا أول من بايعه يوم الجمعة 4 رمضان 172هـ، وتلقب بـ«أمير المؤمنين»(3).
- بيان إدريس الأول:
أعلن إدريس دعوته إلى المغاربة، وأغلبهم قبائل بربرية شديدة البأس تتقدمها قبيلة أوربه بزعامة عبد الحميد إسحاق، ونشر إدريس بيانه الأول ومما جاء فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين الذي جعل النصر لمن أطاعه، وعاقبة السوء لمن عانده، ولا إله إلا الله المتفرد بالوحدانية.. وصلى الله على محمد عبده ورسوله وخيرته من خلقه وآله الطيبين، أما بعد:
فإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، والى العدل في الرعية والقسم بالسوية ورفع المظالم والأخذ بيد المظلوم وإحياء السنة وإماتة البدع وإنفاذ حكم الكتاب على القريب والبعيد.. اعلموا يا معاشر البربر إني أتيتكم وأنا المظلوم الملهوف الطريد الشريد الخائف الموتور الذي كثر واطره وقل ناصره وقتل أخوته وأبوه وجده وأهلوه، فأجيبوا داعي الله عز وجل إذا يقول
ومن لا يجيب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه من أولياء أولئك في ضلال مبين) .
أعاذنا الله وإياكم من الضلال وهدانا إلى سبيل الرشاد، وأنا إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عمّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)..، هذه دعوتي العادلة غير الجائرة فمن أجابني فله مالي وعليه ما عليَّ، ومن أبى فحظه أخطأ وسيرى ذلك عالم الغيب والشهادة، إني لم أسفك دماً ولا استحللت محرماً ولا مالاً واستشهدك يا أكبر الشاهدين واستشهد جبريل وميكائيل إني أول من أجاب وأناب، فلبيك اللهم لبيك مزجى الجبال سرابا بعد أن كانت صماً صلاباً، وأسألك النصر لولد نبيك إنك عل كل شيء قادر وصلى الله على محمد وآله وسلم..»(4) انتهى.
ولقد لاقت دعوة إدريس العلوي هذه تجاوباً سريعاً وواسع النطاق في صفوف قبائل البربر، وبانت مؤشرات نجاح مشروعه السياسي، وهو بدوره راح يضع اللبنات الأولى لكيان دولته الشيعية – العلوية الجديدة والأولى من نوعها بعد حكومة جده أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالبt.
وفي عهد إدريس الأول هذا انتظم للدولة جيش كثيف وقوي أخضع من حوله من بلاد المغرب الأقصى الكثير من الأقاليم والمدن لاسيما البلاد التي لم تكن دخلت في الإسلام بعد، كبلاد (تارلا) وحصون (فنلنده) و(مديوقة) و(بهلوله) وقلاع (غياثة) وبلاد (فازار)، ثم تقدم فأخضع تلمسان في المغرب الأوسط، وبهذا تمكن أمره واستقر حكمه وأرسى قواعد الدولة العلوية الفتية، ونجح في أن يقيم ملكاً وطيداً دعامته العدل وإنصاف الناس.
- المواجهة العباسية المضادة ومؤامرة الخليفة هارون:
مع تعاظم قوة الدولة الأدريسية، أدرك هارون بأن العمل الحربي لا يجدي نفعاً، وقد كان عليه من العسير إنفاذ جيوش عباسية للقضاء على حركة إدريس التي راحت تزداد قوة يوما بعد يوم، لبعد المسافة ووعورة الطرق، كما إن هارون تردد كثيراً بشأن مقاتلة إدريس وأتباعه إيقاناً منه لصعوبة الاشتباك مع قبائل البربر الشديدة البأس والمتمرسة بالحرب، لذا فإنه سلك