كيف نشكر أهل تونس، لا شكر يرقى لهداياهم لنا إلا أن نسير على خطاهم، لأن أول هداياهم هى تعليمهم لنا أن السير على خطاهم ممكن، أن الناس يقدرون على هذا، يقدرون على أن يرسلوا رؤساءهم ووزراء داخليتهم وضباط أمنهم ومعذبيهم إلى الجحيم، ثم ترفض الجحيم استقبالهم.
ما الفرق بين الرجل الخائف المتكلم بالدارجة المغدق الوعود على الناس متوسلا لهم توسلا ساطعا وبين الرجل نفسه قبلها بيومين، جسمه هو جسمه واسمه هو اسمه وماله لم ينقص درهما واعتراف عواصم العالم به لم يتغير، غاية الأمر أنه أصدر أمرا فرفض المأمور تنفيذه فسقط الرئيس. والمأمور فى هذه الحالة قد يكون ضابطا فى الجيش أو طالبة فى المظاهرة، كلاهما لم يطع فأصبح كل منهما رئيس نفسه، أصبح حرا ونال تلك التى نحلم بها كل يوم وليلة.
كيف نشكر أهل تونس، شكر التلميذ للمعلم، شكر الناس لمن أراهم أنهم قادرون، لمن ذكرهم أن لهم أيادى وأقداما وألسنة غفلوا عنها حتى ظنوا أنهم خلقوا بدونها، إن هداياهم لنا لا تنتهى. بادئ ذى بدء قد أهدونا أول ثورة شعبية ناجحة فى تاريخ العرب الحديث، إن ثورات مصر عام تسعة عشر والعراق عام عشرين وسوريا عام خمسة وعشرين وفلسطين عام ستة وثلاثين وإن كانت ثورات شعبية فإنها لم تفلح فى تغيير نظم الحكم التى خرجت عليها. أما باقى الحركات التى أفلحت فى تغيير نظم الحكم من بعد فكانت كلها انقلابات عسكرية دعمها الشعب أو لم يدعمها.
ثانيا لقد أهدانا أهل تونس أول ثورة عربية شعبية ناجحة ضد حاكم عربي، كانت الثورات المذكورة كلها تحركات ضد الاحتلال الأجنبي، وكانت الانقلابات الثورية اللاحقة لها فى معظمها ردود فعل على هزائم حربية أكثرها ضد إسرائيل. وقد قلنا من قبل إن حكوماتنا المحلية هى وسائل احتلال بالوكالة، وقد بدا للقوى الاستعمارية أن احتلالنا عبر وسطاء من أهلنا أنجح وأكفأ من الغزو العسكرى الأجنبى وكان دليلهم على ذلك أنا لا نثور على حكامنا من بنى جلدتنا حتى وإن فعلوا فينا ما كان يفعله المستعمر ويزيد، وحتى إن فعلوا ذلك لحساب المستعمر، وحتى إن أعلنوا نهارا جهارا أنهم يقتلوننا لحساب بريطانيا وفرنسا وأمريكا بل وإسرائيل ثم أسموها بالدول الحليفة والصديقة. فاليوم علمنا أهل تونس أن حجارة الانتفاضة قد لا تقتصر على دبابة إسرائيلية أو أمريكية فحسب، بل قد تطال كل سيارة شرطة عربية تعمل لحساب تلك الدبابات وتحالفها وتتعاون معها.
ثالثا: أهدانا أهل تونس أول ثورة شعبية عربية ناجحة قامت لأسباب اجتماعية واقتصادية. فقد كانت العادة من قبل أن الجوع والقهر عندنا لا يغيران الحكومات، وكأننا نرضى من حكامنا فقط بأن يكفوا عن قتلنا، فإن أخذوا رزقنا فهنيئا لهم فنحن أضعف من أن نثور حماية لأرزاقنا. وكأنا تعودنا الجلوس على المقاهى بلا عمل، وتعود شبابنا ألا ينالوا حقهم الإلهى فى الإلف لقلة مالهم، وتعودت صبايانا ألا يصبحن عرائس وأمهات ما لم يَسألنسؤالا مهينا عن الأثمان المدفوعة فيهن، وكأننا تعودنا أن يحولنا الفقر إلى شحاذين وبغايا ثم لا نغضب، ونحمد الله على أننا لم نمت ولم نعذب ولم نوضع فى قبو أو قبر. علمنا أهل تونس الغضب الحلال وأن عربة خضرة مبعثرة ثمارها على الأسفلت سبب كاف ليرحل رئيس الجمهورية وزوجته وأولاده وأقرباؤه وحلفاؤه وأصدقاؤه ويحرر الحيز الذى كان يحتله من الهواء والأشبار التى كان يقع ظله عليها من الأرض، كلها فداء عربة خضرة قلبت ظلما، فلم يسامح الناس فيها.
رابعا: أهدانا التونسيون ثورة انطلقت من الريف وأثمرت فى العاصمة، لقد كان أهل مصر مثلا قلقين من أن قدرتهم على الحشد فى الريف أكبر منها فى العاصمة لتركز الأمن بها ووجود خطط لأغلاق منافذها، بل إن شوارعها صممت بحيث تقسمها الأسوار الحديدية فلا يمكن للناس أن يتظاهروا فيها. أقول لقد أهدانا أهل تونس ثورة ولدت حيث ولدت فلم يشأ لها الناس أن تموت، وخرجوا من بلدة إلى أختها حتى وصلوا إلى وزارة الداخلية، هى ثورة مستضعفين حقا لا مجازا، ومهمشين بكل ما فى الكلمة من معنى، وقد انتصرت بكل ما فى الكلمة من معنى.
خامسا: أهدانا أهل تونس مثلا يحتذى فى الحكمة ورباطة الجأش، فبعد هروب الرئيس أطلق بعض أعوان النظام السابق جماعات من النهابين تعتدى على الخلق فى دورهم، ففهم الناس، وفهموا كلهم وفى نفس اللحظة، أنها خطة دبرت بليل لوصم الثورة بالفوضى، ولكى يترحم الناس على الشرطة التى انتصروا عليها ويطلبوا منها العون ضارعين. فما كان من الناس إلا أن شكلوا لجانهم هم، شرطة منهم ومن أبنائهم، لم تتعود على الضرب والسحل والتعذيب والرشوة، بل أهل الأحياء يحمون أمهاتهم وأخواتهم وأخوانهم وأنفسهم ودورهم، مثال والله بعيد المغزى، فقد أقام الناس دولتهم بعد الدولة وبعيدا عنها، استقلوا عن الدولة التى لم تكن إلا امتدادا لاحتلالهم واستمرارا لاستعبادهم. ربما رأى معظم القراء ذلك التسجيل المصور من شارع الحبيب بورقيبة ليلا حيث نادى مناد يا أهل تونس ارفعوا رؤوسكم ولا تخافوا من أحد بعد، فأجابته النساء بالزغاريد، ثم أجابتهن نساء أخريات بزغاريد أخرى من آخر الشارع.
أيها الناس هذه الزغاريد هى الثورة وهى الدولة، هى تكاتفنا وحسن ظننا بأنفسنا، هى إعلان سند وحلف، وليس العقد الاجتماعى الذى تقوم عليه النظم السياسية إلا حلفا بيننا مفصلا بعض الشيء. لقد أهدانا أهل تونس ولو لثوان دولة من الزغاريد، وحلفا من الناس تعاقدوا على ألا يجور أحد على أحد، وأن يكونوا يدا على من جار وظلم، وأن ذمتهم واحدة، وليست الدولة إلا عقدا كهذا ما لم يغفل عنها أهلها فيميل بها الظالمون.
تعلمنا فشكرا لأهل تونس، ولن يعود لهم شاه ولا شاهبور، فاليوم أصبح للعرب فى الثورات الشعبية نصيب كجيرانهم. وأما حكامنا الذين يحكموننا من ثلاثين سنة فليخافوا، ولا نلومن إلا أنفسنا إن لم يفعلوا. لا يوجد الحاكم إلا فى خيال المحكوم، وبعض الحكام عبء حتى على الخيال.