في الحقيقة لم أكن مندهشا و أنا أقرأ أغلب الردود على هذا الطرح الأدبي - " اللحية بين فلسفة الشرع و نظرة المجتمع " الذي أطلقته في أكثر من موقع .. فأنا أعلم جيدا أنه من المحال مجرد محاولة إحداث تغيير في أحد الموروثات الفكرية التي ترسخت في العقل المسلم بفعل خطاب ديني ممتد منذ قرون ..
و الحق أن قضية " اللحية " - في حد ذاتها من حيث الحكم الشرعي - هي أقل عندي من أن يتناولها قلمي بالمناقشة و العرض ، فهي قضية على هامش قضايا الدين و الحياة .. ففي الدين و الحياة قضايا ساخنة في حاجة فعلا إلى العرض و الإثارة ، و هي أولى فعلا من مجرد الحديث عن : هل اللحية فرض أو سنه ؟؟ و هل الحليق آثم أم غير آثم ؟؟
و لذلك أهملت – في مقالي هذا - الحديث عن المبرر الشرعي في الحكم على اللحية ، و كان المقال يعرض ما هو أخطر من اللحية في حد ذاتها و هو : " النظرة الاجتماعية الخاطئة للشخص الملتحي وربطها بالإسلام "
و لم أكن أرمي من أسلوبي الاستنباطي بالمقال أن أقول للقاريء أن اللحية ليست من السنة ، أو أنها ليست من الإسلام ، فهذا شيء لا يفهمه – بداهة – أي عاقل منصف يقرأ المقال .. و لكني كنت أرمي إلى :
1- العودة بالقضية كلها إلى أصلها البسيط ..
2- أن أوضح المنظور الاجتماعي الخاطيء للحية ، و ربط ذلك بالإسلام و حقيقته ..
3- أن أوضح طريقة الناس في نكران الحق حيث كان .. فإذا كان الحق صعبا قالوا : هذا تشدد وجمود ، و إذا كان الحق يسيرا قالوا :هذا تمييع مرفوض ..
أما و إذا كانت هناك من حاجة لتوضيح شرعي للنقاط التي تعرض لها المقال ، فلا بأس بذلك .. و الله الموفق ، إنه بكل جميل كفيل ، و هو حسبنا و نعم الوكيل :
أولا :
لعل من الأشياء التي صدمت القراء – خصوصا من هم على علاقة شخصية بالكاتب - أنهم فوجئوا بالكاتب " الملتحي " يفصح لهم عن سر خطير ، و هو : أنه أطلق اللحية لأن منظر وجهه بها أوسم من منظره وهو حليق .. وهذه صدمة كنت متوقعا لها ، ولذلك طرحتها بأسلوب أدبي جريء … و لعل كثيرا من القراء وقفوا مشدوهين وعقلهم يردد : هل أطلق لحيته ليس اتباعا للسنة ؟؟!!
و الصدمة هنا تعبر عن حالة الانحراف الفكري الذي وصل إليه العقل المسلم نتيجة خطاب ديني عطب امتد بأمة الإسلام إلى ما يقرب من قرنين أو ثلاث قرون إن لم يكن أكثر من ذلك .. وعلاج هذا الانحراف أن يحدث للعقل المسلم نوع من المسح من جديد حتى يتعافى من هذا الانحراف و يعود إلى أصل الإسلام و فطرته الأولى حيث كان محمد و أصحابه صلوات الله عليهم ..
ثانيا :
أود أن أبدأ هنا بمناقشة النصوص التي وردت في مسألة اللحية .. و هنا أود أن أقول شيئا هاما : أنه إذا كان الحكم الشرعي في " إطلاق اللحية " أمرا مختلفا فيه بين العلماء حتى بين الفقهاء الأربعة .. فإن الضرورة هنا تقتصي النظر إلى النصوص بشكل مجرد بعيدا عن فتاوى العلماء .. عملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه وابصة بن معبد : " استفت قلبك ، استفت نفسك ، البر ما اطمأن إليه القلب ، واطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في النفس ، وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك "
و بتصنيف تلك النصوص أقول : فإن النصوص التي وردت في قضية اللحية يصح وصفها بأنها نوعين من النصوص :
1- نصوص " اللحية من الفطرة .. "
2- نصوص " خالفوا المشركين "
أولا : نصوص الفطرة :
1- حديث مسلم عن عائشة رضي الله عنها : " عشر من الفطرة : قص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والسواك ، واستنشاق الماء ، وقص الأظفار ، وغسل البراجم ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وانتقاص الماء . قال زكرياء : قال مصعب : ونسيت العاشرة . إلا أن تكون المضمضة . زاد قتيبة : قال وكيع : انتقاص الماء يعني الاستنجاء "
2- حديث النسائي عن عائشة رضي الله عنها : عشرة من الفطرة : قص الشارب ، وقص الأظفار ، وغسل البراجم ، وإعفاء اللحية والسواك ، والاستنشاق ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وانتقاص الماء …
3- حديث النسائي عن أبي هريرة : خمس من الفطرة قص الشارب ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظافر ، والاستحداد والختان
4- حديث ابن الملقن من حديث أبي هريرة : من فطرة الإسلام الغسل يوم الجمعة والاستنان وأخذ الشارب وإعفاء اللحى
وهذه النصوص و غيرها ترشدنا إلى أصل اللحية .. و هي أنها من " الفطرة " ..
والفطرة في لغة العرب : من الفعل الثلاثى فطر ، وفطر الشىء يفطره فطرا فانفطر ، وفطّره : شقه ،وأصل الفَطْر : الشق ، ومنه قوله تعالى : " إذاالسماء انفطرت "
وفطر الله الخلق : خلقهم وبدأهم .
والفطرة : الابتداء والاختراع ومنه قوله تعالى : " الحمد لله فاطر السماوات والأرض "
والفِطرة : الخلقة التى يخلق عليها المولود فى بطنأمه ..
و هي اصطلاحا : هى البداءة التى ابتدأ الله الخلق عليها .. و هي الجبلـّـــية التي يكون بها الإنسان على أكمل وجه ، و أحسن صورة ..
و هي كمال جمال الإنسان ، و حسن صورته ، و نظافة مظهره و سريرته ..
و بهذا التعريف وبتلك النصوص أقول باختصار : أن اللحية – بتعريف النبي صلى الله عليه وسلم لها - هي تلك الشعيرات التي تنبت في جسد الإنسان أسفل الذقن ، و يحسن الإبقاء عليها مثلما يحسن الإبقاء على شعر الرأس ، و قص الأظفار ، و حلق العانة ، و نتف الإبط ، و الاستنجاء .. و كل ما هو من شأنه أن يظهر الإنسان جميلا نظيفا ، في كمال من الهيئة ، و الوقار ..
وبهذا التعريف فإن اللحية في الشرع من المستحبات و ليس من الواجبات ..
فالفرق بين الملتحي و الحليق مثل الفرق بين صاحب الشعر و الرجل الأصلع .. فرق في معيار جمال المظهر والهيئة و ليس في معايير الإيمان و التدين ..
و من هنا أقول أنه ليس شيئا يستدعي الصدمة أن أقول أنني أطلقت لحيتي لأن مظهر وجهي بها أجمل من مظهري و أنا حليق .. إذ أن علة إطلاقها – كما وضح النبي - أنها من محسنات صورة الإنسان ، و من أسباب نظافته ووقاره .. و
المزيد
أضف الى مفضلتك
del.icio.us
Digg
Facebook
Google
LinkedIn
Live
MySpace
StumbleUpon
Technorati
TwitThis
YahooMyWeb
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التصنيفات : غير مصنف |
أرسل الإدراج
دوّن الإدراج
دوّن الإدراج
لا تعليقات
اللحية بين فلسفة الشرع و نظرة المجتمع
كتبها نصر حسان ، في 5 نوفمبر 2010 الساعة: 21:49 م
لا أتذكر منذ متى نبتت لحيتي ، أظن أن ذلك كان في نهايات المرحلة الثانوية ، في نهايات السنة الثانية و بداية الثالثة .. و رغم أن صورتي بها كانت مفضلة - عندي - عن صورتي و أنا حليق ، إلا أنني كنت أحلقها كلما تسببت في ظهور بعض الحبوب الضارة على وجهي .. فهي كانت – ولا زالت- تصيب بشرة وجهي بالحر الشديد إذا زادت عن الحد ..
كنت كذلك ، أتركها حتى تنمو ثم أجتثها نهائيا من على وجهي بعد أيام من نموها ..
لكني في السنة الثانية من الجامعة قررت أن أطلقها ، بعد أن خف ضررها ، و أصبحت أنظر إليها كشارة تميز الرجال ، وزينة خلقها الله أسفل أذقانهم تحسن من صور بعضهم ، و تقبح صور آخرين..
لكني لم أذكر - يوما – أنني اعتبرتها شعيرة يتقرب بها العبد من ربه ، أو شارة تميز المسلم عن غيره ..
و أتذكر حوارا دار بيني و بين أحد أصدقائي يوما حين سألني عن سبب إطلاقي اللحية ..
فأجبته بهدوء الأبرياء : أطلقتها لأن صورتي بها أفضل في نظري ..
فأجابني باندهاش : ألم تطلقها عملا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!!
فأجبته مندهشا : و هل أطلقها محمد صلى الله عليه وسلم إلا لأنها زينة أعز الله بها الرجال ، و زين وجوههم بها ..؟؟
فقال : و لكن محمدا أمرنا أن نطلقها مخالفة للمشركين ؟؟
قلت : نعم أعلم ذلك ، و لكن لو كان إطلاقها قاصرا لهذه العلة ، لكان حلقها اليوم فرض واجب ..
فسألني باندهاش : كيف ذلك ؟؟
قلت : إن الرهبان في الأديرة ، و القساوسة و الشمامسة في الكنائس يطلقون لحاهم حتى تلامس أطرافها أسرّتهم ، فأين المخالفة في الحلق إذا ؟؟
و لو كان إعفاء اللحية شعيرة يتقرب بها العبد من ربه ، لكان أبو جهل ذا اللحية الكثة ، و أبو لهب - لهيب الشعر - من الصديقين و العبـّــاد المقربين ..!!
ولكنها فطرة زين بها الله الرجال ، وقد أرشدنا التاريخ في قديم العرب وغيرهم إلى أن إعفاء اللحْية كان عادة مُستحسنة، ولا يزال كذلك عند كثير من الأمم في علمائها وفلاسفتها، مع ما بينهم من اختلافٍ في الدين والجنسية والإقليم. يَرون فيها مظهرًا لجمال الهيئة ، وكمال الوقار والاحترام ..
والرسول ـ عليه السلام ـ مِن دأبه إرشاد أمته إلى ما يجعلهم في مقدمة أرباب العادات المُسْتحسنة، التي تُوفر بحسب العُرف مظاهر الوقار، وجمال الهيئة.
ومِن ذلك جاءت أحاديث الترغيب في توفير اللحْية، كما جاءت أحاديث الترغيب في السواك وتنظيف عُقد الأصابع ومَعاطفها .. ولعل حديثه صلى الله عليه وسلم " خالفوا المشركين " كان من قبيل النصح الوقتي المنتهي بزوال العلة ..
و الحق أن الأقرب إلى الله عز وجل ، ليس صاحب الشعر الطويل ، و لكن القريب إلى الله ، و المستمسك بسنة نبيه هو صاحب الشعور الوافر ، و الحس المرهف ، و العقل المتأمل الذي يصل به إلى ربه ، فيندفع الحب في فؤاده له ، و تمتلئ جوارحه إيمانا به ، و تسبيحا بحمده ..
لهذه الفلسفة البسيطة أطلقت لحيتي ، فلا أعتبرها دليلا على إيمان زائد ، أو شعيرة تميز المسلم عن غيره .. و لكنها – في نظري – مجرد شعيرات نابتة أسفل الذقن تحسن مظهر بعض الرجال ..
و لكن المؤسف أن المجتمع يضفي على صاحب اللحية صفات ربطت اللحية بها ، فأعطاه أحيانا مقاما أرفع من مقامه ، أو أحيانا أخرى أعطاه صفات أقبح من أن تكون فيه ، و بهذا يحدث خلط و اضطراب شديد ..
ودائما ما كرهت لقب " شيخ " الذي يناديني به البائعون ، أو صبية وسائل النقل لمجرد وقوع أنظارهم علي ّ كشخص ملتح ، دون أن يعرفوا بعد هل أنا شخص متدين أم لا ؟؟ و هل لي مكانة علمية و دينية أستحق بها هذا اللقب العظيم ؟؟
و علة كراهيتي للقب ليست لأنه لقب مهين ، أو نقيصة تنتقص من كرامة المرء ، حاشا لله ، فهو أعظم الألقاب و مهما بلغ تديني ، و بلغ علمي فمن المحال أن أسمو لتلك المكانة الجليلة ..
و لكني حقا أكره اللقب لسببين :
أولهما : أنني أكره أن تختصر مشاعر الإيمان ، و قيم الدين العظيمة ، و فضائل علومه في شعيرات نابتة أسفل الذقن ..
و الناس معذورون فيما ذهبت إليه ظنونهم .. فرجال الدين قد أعطوا للحية مقاما أرفع من مقامها ، و وصفوا صاحبها بأنه أكثر استنانا و توحيدا من الرجل الحليق .. و ليس هذا بشرط .
فكم من حليق عالم ، و صاحب لحية كفور ..
و ثانيهما :
أن أصحاب اللحى قد عاشوا الدور ، فصنعوا من أنفسهم قوالب متحجرة شوهت صورة الإسلام ، و أعطته صفات ليست فيه .. فمن الوهلة الأولى يظن في صاحب اللحية أنه شخص زاهد في ملذات الدنيا ، متشدد الرأي ، محرم لكل شيء ، عابس الوجه ، متواصل الاكتئاب لما تكشف إليه من حقائق الدار الآخرة و أهوال القبور ..
وهذا خطل أعاني منه ..
و علة المعاناة أنني شاب بسيط سهل ، أعيش سائحا في سجيتي كما يسيح الأطفال الأبرياء في فضاء طفولتهم ، لا يتكلفون في حياتهم ، و لا يتكلفون في تصورهم لحقائق الأمور ..
و أحب أن أعيش هاشا