أولا-واقع وآفاق ظاهرة التكتلات الاقتصادية:
1. ظروف نشأة التكتلات الاقتصادية:
لقد كان لإنتهاء الحرب الباردة في النصف الأول من التسعينيات وما رافقها من تحركات على الصعيد العالمي-تهدف إلى إعادة رسم خريطة العالم الاقتصادية والسياسية وصياغة نسق العلاقات الدولية في إطار ما يسمى بالنظام الدولي الجديد-أثر واضح على المستوى العالمي، وتختلف طبيعة هذا الأثر حسب ما إذا كانت الدولة نامية أم صناعية. ومن أهم تلك المتغيرات التي أثرت في العالم أجمع ما شهده العالم يوم الخامس عشرة من أبريل سنة 1994حيث تم التوقيع من طرف مائة وإحدى عشر دولة على اتفاقية "مراكش" لإنشاء منظمة التجارة العالمية إيذانا لوضع معالم التنظيم الدولي للتجارة وتدويل الحياة الاقتصادية أو ما يسمى بالعولمة التي إلى جانب وجهها الاقتصادي لها أوجه أخرى سياسية، وثقافية وحتى اجتماعية(5). وهذه العولمة-حسب رؤية بعض الكتاب-ليست إلا "مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية تتميز بالانتقال التدريجي من الاقتصاد الدولي-الذي تتكون خلاياه القاعدية من اقتصادات متمحورة على الذات ومتنافسة-إلى الاقتصاد العالمي القائم على أنظمة إنتاجية كونية...وإدارة اقتصادية شديدة للعلاقات الاقتصادية العالمية
إن العولمة إذاً تهدف إلى جعل الاقتصاد العالمي مترابطا ومتشابكا وذلك من خلال اندماج الأسواق العالمية في حقول التجارة والاستثمار المباشر وانتقال الأموال والقوى العاملة والتكنولوجيا ضمن إطار من رأسمالية حرية الأسواق، وهذا مايؤدى إلى خضوع العالم لقوى السوق العالمية ومايصاحبها من اختراق للحدود القومية وانحسار كبير في سيادة الدولة عائد إلى أن مقومات السيادة الاقتصادية أصبحت عالمية بدلا من مقومات السيادة الاقتصادية الوطنية. وتختلف العولمة بهذا المفهوم عن مفهوم الاقتصاد الدولي "العالمية" الذي يركز على العلاقات الاقتصادية بين الدول ذات السيادة، أي أن الدولة تشكل العنصر الأساسي في مفهوم العالمية في الاقتصاد الدولي في حين أن الشركات عابرة القوميات تشكل العنصر الأساسي في مفهوم العولمة(7).
ويتجلي دور الشركات عابرة القوميات من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر، وتوزيع العملية الإنتاجية وتكاملها، إضافة إلى دورها البارز في إشاعة نمط استهلاك محدد وثقافة استهلاكية موحدة على صعيد العالم مستخدمة في ذلك سيطرتها على مؤسسات الاتصال والإعلام والإعلان العملاقة. وعن حجم وعدد هذه الشركات يفيد تقرير الاستثمار في العالم أنه حدث توسع هائل في عدد هذه الشركات خلال السنوات الأخيرة، حيث ارتفع من 7000 شركة سنة 1970 إلى 37000 شركة تعمل من خلال 200 ألف فرع في مختلف أنحاء العالم عام 1995، ثم إلى 65000 شركة سنة 2000 ومايقارب 85000 شركة منتسبة لها موزعة على مختلف أنحاء العالم. وقد تضاعفت مبيعات هذه الشركات أكثر من مرتين بين عامي 1970 و1992 فزادت من 2,4 تريليون دولار إلى 5,5 تريليون دولار، وتجاوزت القوة المالية للعديد من هذه الشركات القوة الاقتصادية للعديد من الدول. وإذا نظرنا إلى التوزيع الجغرافي لهذه الشركات نجد أن 418 شركة عابرة للقوميات من أصل 500 شركة هي الأكبر في العالم توجد مقارها الرسمية في واحدة من 18 دولة عضواً في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)(*)، مع العلم أن هذه المنظمة تمثل أساساً الدول الرأسمالية الأكثر أهمية على مستوى العالم. كما أن الأغلبية الساحقة لمقار الشركات متعددة الجنسية موزعة تقريبا بين ثالوث جغرافي: الولايات المتحدة الأمريكية 153 شركة، الاتحاد الأوروبي 155شركة، واليابان 141 شركة، ومن المعرف أن هذه الدول كلها دول صناعية كبرى
إن العرض السابق لظروف النظام العالمي التي تبين مدى سيطرة الرأسمالية العالمية على الساحة الاقتصادية من خلال النمو المتسارع لظاهرة العولمة وبروز معظم تجلياتها من خلال هيمنة الشركات عابرة القوميات على النشاط الاقتصادي العالمي، والعمل على ترسيخ ذلك وإضفاء الشرعية عليه من خلال المصادقة على اتفاقية التجارة الدولية، كل ذلك جعل الدول-في مختلف أنحاء العالم المتقدم منه والنامي-تفكر بل تعمل على خلق إطار خاص للتعاملات الاقتصادية خاصة التجارية منها على شكل تكتلات اقتصادية معظمها على أساس إقليمي. ومع أن التوجه إلى التكتلات الاقتصادية ظاهرة قديمة، فإن تنامي هذه الظاهرة بالشكل المشهود حاليا هو الجديد في المسألة، ومن المعتقد أن سببه يرجع إلى ظروف الاقتصاد الدولي الحالي التي سبقت الإشارة إليها. وفي النقطة الموالية سنناقش واقع هذه التكتلات الآن ومدى تناميها عالمياً.
ثانياً-تنامي التوجه إلى التكتلات الاقتصادية وآفاقه المستقبلية:
لاتعد ظاهرة التكتلات الاقتصادية ظاهرة حديثة، بل ترجع-على الأقل-إلى بداية القرن العشرين وبالتحديد بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن الجديد في الموضوع هو تنامي وسرعة التوجه إلى إنشاء هذه التكتلات أو الدخول فيها خصوصا من قبل الدول المتقدمة. حيث يمكن القول إن تنامي هذه الظاهرة في العقد الأخير من القرن العشرين جعل منها سمة أساسية من سيم النظام الاقتصادي العالمي الجديد، ويعتقد البعض أن جذور الظاهرة ترجع إلى التغيرات التي اعترت الوضع الاقتصادي العالمي في السبعينيات التي تمثلت في انهيار نظام ابريتون وودز لأسعار الصرف الثابتة للعملات، والتحول إلى نظام أسعار الصرف العائمة وما صاحب ذلك من ارتفاع أسعار الطاقة وتقلبات حادة في أسعار العملات الرئيسية وبلوغ أزمة المديونية الخارجية ذروتها في بداية الثمانينيات، الأمر الذي أدى إلى ظهور موجة جديدة من السياسات الحمائية في الدول الصناعية مما أثر سلبا في حرية التجارة والتدفقات السلعية خاصة بالنسبة لصادرات الدول النامية إلى الأسواق العالمية.
إضافة إلى كل ما سبق فإن انهيار الشيوعية وتزايد الدول المطبقة لنظام الاقتصاد الحر أدياهما الآخران إلى التفكير في تكوين تكتلات اقتصادية وبشكل أكبر وعلى نطاق أوسع، فظهرت في أمريكا اللاتينية تجمعات كالسوق الجنوبي (ميركوسور) والسوق الكاريبي (كاريكوم)، وتجمع الأندين، وفي آسيا تجمع الآسيان لدول جنوب شرق آسيا،وتجمع السارك لدول جنوب آسيا، وفي أفريقيا السوق المشتركة لجنوب وشرق أفريقيا، وتجمع الجنوب الأفريقي للتعاون والتنمية والجماعة الاقتصادية لغرب أفريقيا. مع العلم بأن بعض هذه التكتلات أنشئ في وقت سابق على الانهيار الشيوعي.
ولعل من أهم الأسباب التي أدت إلى هذا التوجّه الجديد نحو التكتلات الاقتصادية-في صفوف الدول النامية بالذات-تكمن فيما شهدته السنوات الأخيرة من عقد الثمانينيات وأول التسعينيات من اتجاه واضح نحو مزيد من التكتل الاقتصادي بين مجموعات الدول المتقدمة بعد أن حل التحدي الاقتصادي محل التحدي الأمني والإيديولوجي فتوصلت دول السوق الأوروبية المشتركة إلى معاهدة ماسترخيت في سنة 1991 التي تم بموجبها تحول السوق إلى اتحاد أوروبي، ثم ما لبثت الولايات المتحدة الأمريكية أن أعلنت في عام 1992 إنشاء منظمة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية NAFTA، وفي نفس الاتجاه ونحو المزيد من التكتل الاقتصادي ظهرت تكتلات عملاقة: كالتجمع الكبير الذي يضم معظم دول آسيا والباسيفيكي APEC.
وفي ظل هذه التوجهات وغيرها تحول ميدان الصراع بين القوى الكبرى في العالم-في وقتنا الحالي-إلى ميدان اقتصادي أساساً وبرزت التكتلات الاقتصادية لتكون ظاهرة العصر، ومهما تباينت دوافع إنشائها فإن مجرد بروزها بهذا الزخم على صعيد العلاقات الاقتصادية الدولية يؤكد قوة العوامل التي دفعت إلى وجودها. ويمكن تلخيص أهم الملامح والمضامين التي ميزت هذه الظاهرة في
* من حيث طبيعتها فإنها تأتي تجسيداً للحصول على تحولات هيكلية جذرية في البناء الاقتصادي الدولي بما فيه إعادة توزيع الأدوار والمواقع النسبية للمشاركين فيه وبالتالي تأثيره في العلاقات الاقتصادية التي تنتج عنه.
* من حيث شموليتها فإنها تغطى أهم المشاركين في الاقتصاد الدولي، بل تتعدى ذلك لتشمل غيرهم في مختلف أنحاء العالم مما يجعلها ظاهرة دولية في أبعد حدودها.
* ومن حيث أبعادها فإنها ظاهرة اقتصادية في منطقها سياسية واستراتيجية في ترابط واتصال حلقاتها.