لا بديل عن الحوار والدعوة إلى التسامح والتعايش
مسألة التعايش والتقارب والانفتاح على الآخر والتواصل معه من أجل تحقيق العيش المشترك والسلم الأهلي أصبحت من الضرورات التي لا يمكن تجاهلها أو إغفالها بحال من الأحوال، وخصوصا في ظل الأجواء المشحونة والتوترات المتسارعة التي يشهدها عالمنا اليوم من صراعات دينية وطائفية وعرقية وخصوصا أن الدين قد تحوّل من كونه عامل توحد وتقارب ومحبة وانسجام وألفة إلى سبب للقطيعة والصراع والاحتراب والانقسام, وهذا يرجع بطبيعة الحال إلى سوء استخدام الإنسان واستغلاله لعامل الدين وتوظيفه للوصول إلى أهداف وغايات سياسية وتطلعات مصلحية، فإن أخطر الأسلحة فتكا وتدميرا هو استخدام الأديان وتسخيرها في إدارة الحروب والصراعات وإضرام نار الأحقاد والعداوات.
لو سألنا الأديان السماوية ما هو الهدف أو الغاية من خلق الله للإنسان؟ لكانت الإجابة تتحدد حول مفهوم وصول الإنسان إلى مرحلة التكامل الإنساني وهذا التكامل يعني في النتيجة أن يكون الإنسان قريبا من الله والقرب منه سبحانه هو غاية الغايات «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» (الذاريات: 56)، فالعبادة بمفهومها العام والشامل وسيلة ووصلة لتحقق القرب منه عزوجل.
وبالتالي فإن كل الأديان السماوية تهدف إلى شيء واحد وهو بناء الإنسان وصياغة الشخصية الإنسانية على أساس من قيم ومبادئ السماء بحيث ينعم الإنسان بالسعادة الحقيقية والحياة المثلى ويتحقق له الاطمئنان الروحي والاستقرار النفسي والأمن الاجتماعي.
ومن الطبيعي أن التقارب لا يراد منه توحيد الأديان في شرعة واحدة أو إلغاء الفوارق بين المذاهب المختلفة فهذا أمر غير ممكن أصلا ولا أعتقد أن أحدا يمكنه فعل ذلك, كما أن المقصود ليس هو البحث عن مسألة الصواب أو الخطأ لهذا المعتقد أو ذاك كما يتصوره البعض والذي يحاول بقصد أو بغير قصد أن يثير الشكوك أمام الدعوة للحوار بين الأديان والمذاهب بالاستناد إلى مقولات حدّيّة وشعارات مجردة وهو ما يكشف عن ضعف وضبابية في الرؤية وضحالة في التفكير وقصور في ادراك واقع الحال وخصوصا إذا ما بُنِيَ هذا التصور على نظرية المؤامرة التي تختزل طريقة التفكير والتعاطي عند هؤلاء مع مجمل القضايا والمواقف.
هناك جملة وافرة من المشتركات ومساحات كبيرة وفضاءات واسعة في دائرة منظومة القيم والمبادئ الدينية والإنسانية وفي مجمل المجالات الحياتية والاجتماعية التي تتطلب تضافرا للجهود وتكاتفا من القوى المختلفة على العمل المشترك الذي يمكن لأتباع الأديان وأصحاب المذاهب في أوطانهم وبلدانهم أن يشتغلوا من خلالها للوصول إلى معالجة الكثير من المشكلات المعاصرة والحد من الأزمات الحاضرة. إن الجميع في مركب واحد وسفينة واحدة, يستوجب عليهم أن يعملوا من أجل رفعة أوطانهم وأمن بلدانهم وتنمية مقدراتهم والاستفادة من طاقاتهم وإمكاناتهم.
وهذا يتطلب أن يتطور العمل من مجرد لقاءات وفعاليات فكرية إلى أكثر من ذلك إلى العمل المشترك في المجال الإنساني والاجتماعي وفي مختلف المجالات من نشاطات وفعاليات يمكن أن تساهم في الارتقاء بمجالات البناء والأعمار.
الغاية من الحوار بين الأديان
لا بد ألا نغفل عن النقطة المهمة جدا وهي أن الغرض من الحوار بين الأديان هو الوصول إلى القواسم المشتركة التي تجمع بين الأديان، وكما أشرت فهي تشكل مساحات كبيرة جدا، ويجب علينا في المقام الأول أن نبحث عن المنهج في أمثال هذه الحوارات؛ لأن ثمة مناهج كثيرة مطروحة عند مفكري الشرق والغرب، ولا يخفى أن المنهج التراثي أو التاريخي لا يجدي في أمثال هذه الحوارات؛ لأننا سوف نواجه بالطبع قضايا وقناعات مسبقة في كل الأديان وكل دين يتمسك بتلك القضايا والقناعات، كما لا يمكن الاعتماد على المنهج الأخلاقي - وهو ما اسماه بعض المهتمين بشأن الحوار والتقريب بين الأديان (عالمية الأخلاق) - وذلك بسبب الخلاف أو التحفظ على هذا المنهج، إذ إن البعض يعتقد بنسبية القضايا الأخلاقية والقانونية، بينما يذهب البعض الآخر إلى ذاتية وواقعية القضايا الأخلاقية والقانونية، والمنهج الذي يفيدنا في أمثال هذه الحوارات هو (المنهج العقلي) فإنه باستطاعتنا أن نصل إلى نتائج مثمرة وهامة في موضوع الحوار بين الأديان فيما لو اتبعنا المنهج العقلي وهو المنهج الذي لا يختلف عليه العقلاء، وتوجد تجربة حديثة معاصرة تمثل نموذجا راقيا وهو الحوار الذي دار بين المفكر والفيلسوف الإسلامي العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي - مؤلف كتاب الميزان في تفسير القرآن - والبروفسور الفرنسي هنري كوربان في حوارهما الهادف والموضوعي في موضوع الأديان والعقائد السماوية، حيث اتبع السيد الطباطبائي والبروفسور كوربان المنهج العقلي في البحث، وقد توصلا إلى نقاط مهمة في هذا الشأن.