سأتطرق في هذه المقالة إلى نقطتَيْن تبدوان كافيتين إعطاء فكرة عن مضمون العنوان أولاهما، قيم التسامح الديني وأثرها في التعايش، وثانيهما، موقف الأديان من هذا التسامح.
أولاً: قيم التسامح الديني
1) قيمة التسامح في كونه ضرورة وجودية:
إن ما يجب تسليط الضوء عليه أن أهمية التسامح الديني تتمثّل في كونه ذا بُعد وُجودي، أي أنه ضروري ضرورة الوجود نفسه. ولتوضيح ذلك يمكن الالماع إلى أن سُنّة الوجود قد اقتضت أن يكون وجود الناس على الأرض في شكل تجمّعات بشرية، وهي وإن اتّفقت في ما يجمع بينها من وحدة الأصل والحاجة إلى التجمّع والحرص على البقاء والرغبة في التّمكّن من مقوّمات الحياة والسّعي في إقامة التمدّن والعمران والتَّوق إلى الارتقاء والتقدّم فإنها قد تباينت في ما تتفرّد به كل مجموعة من خصوصية عرقية ودينية وبيئية وثقافية. وقد صرّح القرآن بهذه الحقيقة الوجودية فقال: { يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا }(1).
لقد أكدت الآية ما كان قد توصَّل إليه الحكماء والفلاسفة من قَبل وأثبته الواقع التاريخي المُشَاهد من أن الإنسان مَدني بطبعه، بمعنى أنه لا تتحقّق حياته ولا ينبني كيانه ولا تكتمل ذاته ولا يكتسب ما تصبو إليه قدراته إلاّ داخل وسط اجتماعي متشابك فيه الخير والشر، وفيه التحابُب والتباغض، وفيه التجانس والتنافر، وفيه الأنا والأنا الآخر.
فالإنسان ابن بيئته، فهي التي تنشئه وتكونه وتلونه، وهي التي توفر له ما تملك مما يفي بحاجاته الأساسية، كما أنها هي التي تَكفيه مع ما تقدّس من شعائر وتطبعه بما تقدر من عادات، وهي التي تأقلمه بشكل يجعل ما هو من متعلقات ذاتيته يتناسق مع روحها العامة وينسجم مع ما لديها من غاية مشتركة.
من ذلك، نتبيّن أن التنوّع بين الناس أفراداً وجماعات ما كان انحرافاً ولا شذوذاً ولا مُروقاً، بل كان من طبيعتهم البشرية ومن أصل خلقتهم الآدمية، فهو ظاهرة ضرورية اقتضتها الفطرة الإنسانية واستلزمتها النشأة الاجتماعية.
إنه تنوّع في الطبائع والأمزجة والمواهب والميول والمؤهلات والطموحات. وإنه تنوّع في أنماط الممارسات الاعتقادية وتباين في التمثّلات الطقوسية وتغاير في التجلّيات السلوكية وتمايز في المنطلقات الفكرية. وإنه تنوّع إيجابي فيه ثراء وخصوبة وتلاقح، يحفّز على الاضطلاع بالمسؤوليات الثّقال، ويدفع إلى جعل الوفاء بالحاجات النفسية والعقلية والوجدانية والاجتماعية والحضارية واقعاً مرئياً وخياراً متاحاً أمام القدرات والكفاءات.
وقد ألمع القرآن إلى ضرورة هذا الاختلاف النمطي، وإلى حتمية وجوده حتى يتمكّن كل فرد وكل مجتمع من العيش حسب ما لديه من إرادة وحرية واختيار وبالطريقة التي يهواها ويرتضيها { ولو شاء ربّك لجعل الناس أُمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين }(2).
وهكذا نلحَظ، أن الغاية من اختلاف الناس إلى شعوب وقبائل وتنوعهم إلى ثقافات ومَدَنيات إنما هو التعارف لا التَّناكر، والتعايش لا الاقتِتَال، والتعاون لا التَّطاحن، والتكامل لا التعارض، وبات واضحاً أن أهمية التسامح الديني تتمثّل في كونه ضرورياً ضرورة الوجود نفسه.
2) قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه يقتضي الاحترام المتبادل:
مما تقدّم، نتبيّن أن قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه يُقرّ الاختلاف ويقبل التنوّع ويعترف بالتغاير ويحترم ما يميز الأفراد من معطيات نفسية ووجدانية وعقلية ومخيال، ويقدر ما يختص به كل شعب من مكونات ثقافية امتزج فيها قديم ماضيه بجديد حاضره ورؤية مستقبله، هي سبب وجوده وسرّ بقائه وعنوان هويته ومَبعث اعتزازه.
3) قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه يقتضي المساواة في الحقوق: