إلا أنه كانت هناك قوة تعرضت للمسلمين من غير مبرر ، وهي قوة الرومان ـ أكبر قوة عسكرية ظهرت على وجه الأرض في ذلك الزمان ـ وقد عرفنا فيما تقدم أن بداية هذا التعرض كانت بقتل سفير رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ـ الحارث بن عمير الأزدي ـ على يدي شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني ، حينما كان السفير يحمل رسالة النبي(صلى الله عليه وسلم) إلى عظيم بُصْرَي، وأن النبي(صلى الله عليه وسلم) أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بالرومان اصطداماً عنيفاً في مؤتة ، ولم تنجح في أخذ الثأر من أولئك الظالمين المتغطرسين ، إلا أنها تركت أروع أثر في نفوس العرب ، قريبهم وبعيدهم .
ولم يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من الأثر الكبير لصالح المسلمين ، وعما كان يطمح إليه بعد ذلك كثير من قبائل العرب من استقلالهم عن قيصر ، ومواطأتهم للمسلمين ، إن هذا كان خطراً يتقدم ويخطو إلى حدوده خطوة بعد خطوة ، ويهدد الثغور الشامية التي تجاور العرب ، فكان يرى أن القضاء يجب على قوة المسلمين قبل أن تتجسد في صورة خطر عظيم لا يمكن القضاء عليها ، وقبل أن تثير القلاقل والثورات في المناطق العربية المجاورة للرومان .
ونظراً إلى هذه المصالح ، لم يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة حتى أخذ يهيئ الجيش مـن الرومـان والعرب التابعة لهم من آل غسان وغيرهم ، وبدأ يجهز لمعركة دامية فاصلة .
الأخبار العامة عن استعداد الرومان وغسان
وكانت الأنباء تترامى إلى المدينة بإعداد الرومان ، للقيام بغزوة حاسمة ضد المسلمين ، حتى كان الخوف يتسورهم كل حين ، لا يسمعون صوتاً غير معتاد إلا ويظنونه زحف الرومان ، ويظهر ذلك جلياً مما وقع لعمر بن الخطاب ، فقد كان النبي(صلى الله عليه وسلم) آلى من نسائه شهراً في هذه السنة ( 9هـ ) وكان هجرهن واعتزل عنهن في مشربة له ، ولم يفطن الصحابة إلى حقيقة الأمر في بدايته ، فظنوا أن النبي(صلى الله عليه وسلم) طلقهن ، فسرى فيهم الهم والحزن والقلق ، يقول عمر بن الخطاب ـ وهو يروي هذه القصة : وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر ، وإذا غاب كنت آتية أنا بالخبر ـ وكانا يسكنان في عوالي المدينة ، يتناوبان إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ـ ونحن نتخوف ملكاً من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا ، فقد امتلأت صدورنا منه ، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب ، فقال : افتح ، افتح ، فقلت : جاء الغساني ؟ فقال : بل أشد من ذلك ، اعتزل رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) أزواجه ... الحديث .
وفي لفظ آخر ( أنه قال ) : وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا ، فنزل صاحبي يوم نَوْبَتِهِ ، فرجع عشاء ، فضرب بابي ضرباً شديداً وقال : أنائم هو ؟ ففزعت ، فخرجت إليه ، وقال : حدث أمر عظيم . فقلت : ما هو ؟ أجاءت غسان ؟ قال : لا بل أعظم منه وأطول ، طلق رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) نساءه ... الحديث .
وهذا يدل على خطورة الموقف ، الذي كان يواجهه المسلمون بالنسبة إلى الرومان ، ويزيد ذلك تأكداً ما فعله المنافقون حينما نقلت إلى المدينة أخبار إعداد الرومان ، فبرغم ما رآه هؤلاء المنافقون من نجاح رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) في كل الميادين ، وأنه لا يوجل من سلطان على ظهر الأرض ، بل يذيب كل ما يعترض في طريقه من عوائق ـ برغم هذا كله ـ طفق هؤلاء المنافقون يأملون في تحقق ما كانوا يخفونه في صدورهم ، وما كانوا يتربصونه من الشر بالإسلام وأهله . ونظراً إلى قرب تحقق آمالهم أنشأوا وكرة للدس والتآمر ، في صورة مسجد ، وهو مسجد الضِّرَار ، أسسوه كفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله ، وعرضوا على رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) أن يصلي فيه ، وإنما مرامهم بذلك أن يخدعوا المؤمنين فلا يفطنوا ما يؤتى به في هذا المسجد من الدس والمؤامرة ضدهم ، ولا يلتفتوا إلى من يرده ويصدر عنه ، فيصير وكرة مأمونة لهؤلاء المنافقين ولرفقائهم في الخارج ، ولكن رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) أخر الصلاة فيه ـ إلى قفوله من الغزوة ـ لشغله بالجهاز ، ففشلوا في مرامهم وفضحهم اللّه ، حتى قام الرسول(صلى الله عليه وسلم) بهدم المسجد بعد القفول من الغزو ، بدل أن يصلي فيه .
الأخبار الخاصة عن استعداد الرومان وغسان
كانت هذه هي الأحوال والأخبار التي يواجهها ويتلقاها المسلمون ، إذ بلغهم من الأنباط الذين قدموا بالزيت من الشام إلى المدينة أن هرقل قد هيأ جيشاً عرمرماً قوامه أربعون ألف مقاتل ، وأعطى قيادته لعظيم من عظماء الروم ، وأنه أجلب معهم قبائل لَخْمٍ وجُذَامٍ وغيرهما من متنصرة العرب ، وأن مقدمتهم بلغت إلى البلقاء ، وبذلك تمثل أمام المسلمين خطر كبير .
زيادة خطورة الموقف
والذي كان يزيد خطورة الموقف أن الزمان كان فصل القيظ الشديد ، وكان الناس في عسرة وجدب من البلاء وقلة من الظهر ، وكانت الثمار قد طابت ، فكانوا يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم فيه ، ومع هذا كله كانت المسافة بعيدة ، والطريق وعرة صعبة .
الرسول(صلى الله عليه وسلم) يقرر القيام بإقدام حاسم
ولكن الرسول(صلى الله عليه وسلم) كان ينظر إلى الظروف والتطورات بنظر أدق وأحكم من هذا كله ، إنه كان يرى أنه لو توانى وتكاسل عن غزو الرومان في هذه الظروف الحاسمة ، وترك الرومان لتجوس خلال المناطق التي كانت تحت سيطرة الإسلام ونفوذه ، وتزحف إلى المدينة كان له أسوأ أثر على الدعوة الإسلامية وعلى سمعة المسلمين العسكرية ، فالجاهلية التي تلفظ نفسها الأخير بعد ما لقيت من الضربة القاصمة في حنين ستحيا مرة أخرى ، والمنافقون الذين يتربصون الدوائر بالمسلمين ، ويتصلون بملك الرومان بواسطة أبي عامر الفاسق سيبعجون بطون المسلمين بخناجرهم من الخلف ، في حين تهجم الرومان بحملة ضارية ضد المسلمين من الأمام ، وهكذا يخفق كثير من الجهود التي بذلها هو أصحابه في نشر الإسلام ، وتذهب المكاسب التي حصلوا عليها بعد حروب دامية ودوريات عسكرية متتابعة متواصلة ، تذهب هذه المكاسب بغير جدوى .
كان رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) يعرف كل ذلك جيداً ، ولذلك قرر القيام ـ مع ما كان فيه من العسرة والشدة ـ بغزوة فاصلة يخوضها المسلمون ضد الرومان في حدودهم ، ولا يمهلونهم حتى يزحفوا إلى دار الإسلام .
الإعلان بالتهيؤ لقتال الروم
ولما قرر الرسول(صلى الله عليه وسلم) الموقف أعلن في الصحابة أن يتجهزوا للقتال ، وبعث إلى القبائل من العرب وإلى أهل مكة يستنفرهم ، وكان قل ما يريد غزوة يغزوها إلا وَرَّي بغيرها ، ولكنه نظراً إلى خطورة الموقف وإلى شدة العسرة أعلن أنه يريد لقاء الرومان ، وجلى للناس أمرهم ، ليتأهبوا أهبة كاملة ، وحضهم على الجهاد ، ونزلت قطعة من سورة براءة تثيرهم على الجلاد ، وتحثهم على القتال ، ورغبهم رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) في بذل الصدقات ، وإنفاق كرائم الأموال في سبيل اللّه .
المسلمون يتسابقون إلى التجهز للعدو
ولم يكن من المسلمين أن سمعوا صوت رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) يدعو إلى قتال الروم إلا وتسابقوا إلى امتثاله ، فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة ، وأخذت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة من كل صوب وناحية ، ولم يرض أحد من المسلمين أن يتخلف عن هذه الغزوة ـ إلا الذين في قلوبهم مرض وإلا ثلاثة نفر ـ حتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ، ليخرجوا إلى قتال الروم ، فإذا قال لهم : " لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ " [ التوبة : 92 ] .
كما تسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات ، كان عثمان بن عفان قد جهز عيراً للشام ، مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها ، ومائتا أوقية ، فتصدق بها ، ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها ، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره(صلى الله عليه وسلم) ، فكان رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) يقلبها ويقول : ( ما ضَرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم ) ، ثم تصدق وتصدق حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود .
وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة ، وجاء أبو بكر بماله كلّه ولم يترك لأهله إلا اللّه ورسوله ـ وكانت أربعة آلاف درهم ـ وهو أول من جاء بصدقته . وجاء عمر بنصف ماله ، وجاء العباس بمال كثير ، وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة ، كلهم جاءوا بمال . وجاء عاصم بن عدي بتسعين وَسْقًا من التمر ، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها ، حتى كان منهم من أنفق مُدّا أو مدين لم يكن يستطيع غيرها . وبعثت النساء ما قدرن عليه من مَسَك ومعاضد وخلاخل وقُرْط وخواتم .
ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون " الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ "[ التوبة : 79 ] .
الجيش الإسلامي إلى تبوك