منذ قديم الأزل ، والخلاف قائم بين الأدباء والنقاد حول مفهوم الشعر وتعريفه ، وقد وضعوا له تعاريف مختلفة وسطّروا آراءاً عديدةً ، وكلٌّ يرى أنه جاء بفصل الخطاب وأنّ قوله هو عين الصواب في تعريف الشعر ، ولكنّ الحقيقة أنَّهم جميعاً قاصرون عن فهم معنى الشعر واستيعاب جزئيّاته وفروعه ، ويبدو جليّاً الآن أنّ تلك التعاريف لم تسمُ إلى قدر الشعر وفهمه الفهم الصحيح ، ومن أقدم تلك التعاريف هو ما قاله قدامة بن جعفر في كتابه نقد الشعر ، فقد عرف الشعر بأنه : ( كلامٌ موزونٌ ومقفىً يدلُّ على معنى ) (1) ، ومن خلال المرور على هذا التعريف مرَّ الكرام ، نرى أنَّه ينطبق على قول ابن مالك في ألفيته :
كلامُنا لفظٌ مفيدٌ كاستقمْ *** واسمٌ وفعلٌ ثُمَّ حرفٌ الكلِمْ (2)
ولو تمعّنـّا في البيت لرأينا أنه كلام موزون ومقفى يدلّ على معنى ، إذنْ فهو من الشعر ، ولو سألنا : هل يطرب السامع لهكذا بيت ؟ وهل يثير فيه كوامن النفوس ويهيجُ المشاعر ؟ وهل يرغب في سماعه مرّة وأخرى ؟ لاشكّ بأنّ الجواب هو : لا .
ولو سألنا أليس شأنُ الشعر أن يطربَ الأسماع ويُثيرَ كوامن النفوس ويهيّجَ المشاعر ؟ لا شكّ بأنّ الجواب : نعم .
إذن فهذا البيت ليس من الشعر ، أو أنَّ الشعر ليس هو الكلام الموزون المقفى الدالّ على المعنى ! .
وحلّاً لهذا الإشكال فقد ميّزَ الأدباء والنقاد بين الشعر والنظم ، والشعر عندهم هو ما ذكرنا شأنه ، أما النظم فهو الكلام الموزون المقفى الدالّ على معنى ، وضمّنوا النظمَ الأراجيزَ التعليمية كألفية ابن مالك وابن معطي والجزري وابن الهبارية وما شاكلها من الأراجيز العلمية والتأريخية والفقهية والعروضية و...و...وبمعنى أدقّ أنَّهم جعلوا القسمين الثاني والرابع من أقسام الشعر المزعومة وهي : ( الغنائي ، الملحمي ، المسرحي أو التمثيلي والتعليمي ) هو النظم بحدّ ذاته ، فليس هناك شعرٌ ملحميّ ولا تعليميّ وأنما هو النظم ! .
وهنا لا بدّ لنا من ملاحظتين :
الأولى : أنّ الأدباء والنقاد حين ميّزوا بين الشعر والنظم وجعلوا القسمين الملحمي والتعليمي نظماً فمعنى هذا أنهم لا يعتقدون بأهمية هذا التقسيم الرباعيّ المزعوم فليس هناك فائدة وراء هذا التقسيم وما هو إلا محاكاةٌ للشعر الغربي (الأوروبي) البعيد عن واقع شعرنا العربي ، فليس في النظم سوى الوزن والقافية والمعنى ( لأنّ الكلام هو المعنى القائم في النفس ) وإنما بعث على ذلك هو كون الشعر أسهل حفظاً وأكثر لصوقاً بالعقل والنفس ، كما فعل اليونانيون فقد ( كانت أشعارهم تقيّد العلوم والأشياء النفسية والطبيعية التي يُخشى