نرى أن طبيعة الكتابة التي هي حصيلة التفاعل بين العامل الذاتي والمعرفة هي التي تحدد الاتجاه العام للمعنى، ولكن في ظروف خاصة قد لا يأخذ هذا التحديد مساره الطبيعي أو أنه قد لا يظهر بوضوح نظراً لتعقد الظروف وتداخلها . إن أهمية المعنى الدقيق تنبثق من كونه يساعد على استيعاب المواقف ويفسح المجال أمام التواصل والتفاعل الفكريَّين بين الكاتب والقارئ، كما يمكّن الكاتب من التقاط الخيوط الأساسية لما يبحث عنه .
قد ينشأ فهم براغماتي لهذا المعنى يصب في صالح سلطة ما أو حزب ما أو كاتب ما . وحين يصطدم هذا الفهم بالمعنى لا يبدي المعنى اهتماماً خاصاً بالمبنى إلا من حيث تسويغه تلك السلطة أو هذا الحزب . وطبعاً يسهل على الزمن أن يغربل الكتابة أو الكاتب من غسل الدماغ، غير أنه يمكن للكاتب أن يتجنّب مثل هذه الممارسات إذا اتسعت عقليته للكتابة كممارسة معرفية أو كفعل نقدي، وإذا استوعب الكاتب العملية التحريرية الطويلة النَفَس المتعلقة بالكتابة وذات الطبيعة الخاصة نصل هنا إلى الشرط المعرفي الذي يمنح الكتابة معرفية قادرة على إدراك التمايز بين اختصاصات الميدانين: الإبداعي والسياسي، فيتعلَّمَ أن للإبداع مردودَهُ وجدواه المنبعثين من طبيعة هذا النشاط الإنساني الفردي المتمثل بالكتابة، وأن للإبداع قدرته على تكوين كينونة الكاتب في عملية معرفية تدريجية طويلة النَفَس . إن عقلية الكاتب إن لم تَرَ إلى الاستقلالية الفكرية ـ النقدية النسبية للميدانين: الإبداعي والسياسي المتفاعلين والمتكاملين فستلجأ إلى التدخل النقدي الفظّ، إلى التجاوز المعرفي وسوف تصيب الكتابة ـ الكاتب بأكثر من الكدمات والرضوض .
هذا الشرط المعرفي سيمارس دوره ثانية في تقليص مجال الكُتاب العاديين النائمين في ضيق الأفق فينغلق أمامهم طريق المعرفة بينما ينفتح أمامهم طريق التسويغ الثقافي للسياسات البعيدة عن المعنى أو الحياة الثقافية الواقعية .
قد ينشأ في ميدان الكتابة المتنوعة نوع من الاغتراب لدى الكاتب، يشبه غربة العامل عن الآلة في المصنع الرأسمالي، أو غربة العامل عن الملكية العامة في المصنع الاشتراكي، أو غربة المجتمع في العالم الثالث (والمتحضر) عن نفسه وما بين هذه الأشكال الثلاثة من الاغتراب تنعدم العلاقة بين الكاتب والكتابة . إن انعدام العلاقة بين الكاتب وكتاباته سيؤدي بالكاتب إلى الحرية غير المسؤولة، الحرية المطلقة، الحرية العدمية . أي أن يشعر الكاتب بعدم وجود دورٍ له ولإنتاجه . الشرط الضروري لأن تنوجد هذه العلاقة بين الكاتب وإنتاجه هو الوعي الذي به يحدد الكاتب موقفه وموقعه معاً . لكن هذا الوعي لا يكون إرادياً إلا في جزء منه والجزء الآخر ينتج عن تطور موضوعي مستقل عن إرادته، مرتبط بوعيه .
إن مسألة المعنى في الكتابة معقدة وعلاقة الكاتب بالمعنى لا تقلّ تعقيداً، هنا تدخل قضية الوعي بمعناها العام، أي الالتزام بالمعرفة، لكن إذا كانت المعرفة شرطاً للالتزام، فإن الكتابة بصورة مطلقة موقف معرفي ومن هذا الإطلاق في الموقف يبدأ المعنى، ولا يتأتى المعنى إلا من التراكم المعرفي ولن يتم هذا التراكم إلا من خلال المقاربات المتتالية التي تقوم بها، الكتابة، من خلال نشاطها وممارساتها ومن خلال تقديم كل جديد ومقْنع على هذا الصعيد .
ثمة عديد من الكتابات تنتظر محاولة الوصول إلى المعنى، ولهذه الكتابات أهمية كبرى خصوصاً أن عشرات من المبدعين والمثقفين هم على أهْبة اتخاذ خياراتهم المعرفية، هذه الخيارات سوف تستند بالضبط إلى نوعية الكتابة والبحث والتجريب واللغة التي تفترض أن تقدمها، والتي يُرجى أن تأتي في الوقت الملائم دائماً .
النقطة الأخيرة هي دور تطور المعنى نفسه، فالمعنى يتأخر عن حركة الكتابة عادة، لكنه يتقدم ويتطور إلى الأمام مهما تأخر وبنسب متفاوتة ترتفع لدى الكاتب المبدع المنفتّح الذي يقرأ الواقع الموضوعي قراءة معرفية .