هذه السورة مكية ، ومناسبتها لما قبلها ظاهرة ، وشرح الصدر : تنويره بالحكمة وتوسيعه لتلقي ما يوحى إليه ، قاله الجمهور ، والأولى العموم لهذا ولغيره من مقاساة الدعاء إلى الله تعالى وحده ، واحتمال المكاره من إذاية الكفار ، وقال ابن عباس وجماعة : إشارة إلى شق جبريل عليه السلام صدره في وقت صغره ، ودخلت همزة الاستفهام على النفي ، فأفاد التقرير على هذه النعمة وصار المعنى : قد شرحنا لك صدرك ، ولذلك عطف عليه الماضي وهو وضعنا ، وهذا نظير قوله : ( ألم نربك فينا وليدا ولبثت ) ، وقرأ الجمهور : ( نشرح ) بجزم الحاء لدخول الجازم ، وقرأ أبو جعفر بفتحها ، وخرجه ابن عطية في كتابه على أنه ألم نشرحن ، فأبدل من النون ألفا ، ثم حذفها تخفيفا ، فيكون مثل ما أنشده أبو زيد في نوادره من قول الراجز :
من أي يومي من الموت أفر أيوم لم يقدر أم يوم قدر
وقال الشاعر :
أضرب عنك الهموم طارقها ضربك بالسيف قونس الفرس
[ ص: 488 ] وقال : قراءة مرذولة . وقال الزمخشري : وقد ذكرها عن أبي جعفر المنصور ، وقالوا : لعله بين الحاء ، وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها . انتهى . ولهذه القراءة تخريج أحسن من هذا كله ، وهو أنه لغة لبعض العرب حكاها اللحياني في نوادره ، وهي الجزم بلن والنصب بلم ، عكس المعروف عند الناس ، وأنشد قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد ، وهو القائم بثأر الحسين بن علي ، رضي الله تعالى عنهما :
قد كان سمك الهدى ينهد قائمه حتى أتيح له المختار فانعمدا
في كل ما هم أمضى رأيه قدما ولم يشاور في إقدامه أحدا
بنصب ( يشاور ) ، وهذا محتمل للتخريجين ، وهو أحسن مما تقدم ( ووضعنا عنك وزرك ) كناية عن عصمته من الذنوب وتطهيره من الأدناس ، عبر عن ذلك بالحط على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك ، كما يقول القائل : رفعت عنك مشقة الزيارة ، لمن لم يصدر منه زيارة ، على طريق المبالغة في انتفاء الزيارة منه . وقال أهل اللغة : أنقض الحمل ظهر الناقة ، إذا سمعت له صريرا من شدة الحمل ، وسمعت نقيض المرجل : أي صريره ، قال عباس بن مرداس :
وأنقض ظهري ما تطويت منهم وكنت عليهم مشفقا متحننا
وقال جميل :
وحتى تداعت بالنقيض حباله وهمت بواني زوره أن تحطما
والنقيض : صوت الانقضاض والانفكاك ( ورفعنا لك ذكرك ) هو أن قرنه بذكره تعالى في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والتشهد والخطب ، وفي غير موضع من القرآن ، وفي تسميته نبي الله ورسول الله ، وذكره في كتب الأولين ، والأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به ، وقال حسان :
أغر عليه للنبوة خاتم من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وتعديد هذه النعم عليه صلى الله عليه وسلم ، يقتضي أنه تعالى كما أحسن إليك بهذه المراتب ، فإنه يحسن إليك بظفرك على أعدائك وينصرك عليهم ، وكان الكفار أيضا يعيرون المؤمنين بالفقر ، فذكره هذه النعم وقوى رجاءه بقوله : ( فإن مع العسر يسرا ) أي مع الضيق فرجا ، ثم كرر ذلك مبالغة في حصول اليسر ، ولما كان اليسر يعتقب العسر من غير تطاول أزمان ، جعل كأنه معه ، وفي ذلك تبشير الرسول صلى الله عليه وسلم بحصول اليسر عاجلا ، والظاهر أن التكرار للتوكيد ، كما قلنا ، وقيل : تكرر اليسر باعتبار المحل ، فيسر في الدنيا ويسر في الآخرة ، وقيل : مع كل عسر يسران من حيث إن العسر معرف بالعهد ، واليسر منكر ، فالأول غير الثاني ، وفي الحديث : ( لن يغلب عسر يسرين ) . وضم سين ( العسر ) ، ( ويسرا ) فيهن ابن وثاب وأبو جعفر وعيسى ، وسكنهما الجمهور .
ولما عدد تعالى نعمه السابقة عليه ، ووعده بتيسير ما عسره أمره بأن يدأب في العبادة إذا فرغ من مثلها ولا يفتر ، وقال ابن مسعود : ( فإذا فرغت ) من فرضك ( فانصب ) في التنفل عبادة لربك ، وقال أيضا : ( فانصب ) في قيام الليل ، وقال مجاهد : قال ( فإذا فرغت ) من شغل دنياك ( فانصب ) في عبادة ربك ، وقال ابن عباس ، وقتادة : ( فإذا فرغت ) من الصلاة ( فانصب ) في الدعاء ، وقال الحسن : ( فإذا فرغت ) من الجهاد ( فانصب ) في العبادة ، ويعترض قوله هذا بأن الجهاد فرض بالمدينة ، وقرأ الجمهور : ( فرغت ) بفتح الراء ، وأبو السمال : بكسرها ، وهي لغة ، قال الزمخشري : ليست بفصيحة ، وقرأ الجمهور : [ ص: 489 ] فانصب ) بسكون الباء خفيفة ، وقوم : بشدها مفتوحة من الانصاب ، وقرأ آخرون من الإمامية : ( فانصب ) بكسر الصاد بمعنى : إذا فرغت من الرسالة فانصب خليفة . قال ابن عطية : وهي قراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت عن عالم . انتهى . وقرأ الجمهور : ( فارغب ) أمر من رغب ثلاثيا : أي اصرف وجه الرغبات إليه لا إلى سواه . وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة : ( فرغب ) ، أمر من رغب بشد الغين .