يخبرنا التتبع التاريخي لنشأة مفهوم المجتمع المدني وتطوره ،أننا أمام مفهوم ذي عمق تاريخي أكيد حتى وإن ظل يلاقي صعوبات جمة في الوصول إلى دقة أكبر. فالدراسات الكثيرة والمتنوعة التي اهتمت بالمفهوم دوليا في السنوات الأخيرة من مقاربات علمية مختلفة تعود بنا إلى الفلسفة اليونانية وإلى أرسطو، بالتحديد، الذي ربط من خلاله بين المواطنة والمدينة السياسية. محطة ثانية هامة تعود إليها هذه الدراسات التي ازدهت بقوة في السنوات الأخيرة ويتعلق الأمر بأوروبا الثورة البرجوازية والتصنيع من خلال مفكريها المؤسسين، ومن كل أنواع الطيف الفكري الذي عرفته القارة. في تحديدهم لمفهوم المجتمع المدني، اعتمد هؤلاء على ثلاث دلالات ترجع إلى اعتبارات ثلاثة:... باعتباره البديل لسلطة الكنيسة على المجتمع ؛ باعتباره البديل لسلطة الدولة الإمبراطورية القائمة على الثنائية الراعي والرعية ؛ و باعتباره البديل لهيمنة الأسرة المتمثلة في الأب الذي يتحول في النظام الأبوي البطريركي إلى شيخ القبيلة.
رغم هذا العمق التاريخي، فإن مفهوم المجتمع المدني لم يحظ بالاهتمام المستحق طيلة حقبة طويلة من تاريخ الفكر السياسي الغربي وإلى غاية الثمانينيات من القرن الماضي حيث بدأ استحضاره من جديد وبقوة ملفتة للنظر، موازاة مع التحولات التي بدأت تعيشها مجتمعات ودول وسط وشرق أروربا الاشتراكية سابقا، بدءا بما عرفته التجربة البولونية التي تميزت بظهور نقابة التضامن كفاعل أساسي في عملية الانتقال السياسي .
ما ميز هذه العودة الأخيرة لمفهوم المجتمع المدني ، أنها تمت بدعم واضح من قبل المؤسسات السياسية والمالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي كانت وراء تسويق المفهوم دوليا هذه المرة وبالإشكال التنظيمية التي عرفها ،بعد أن منحته العولمة الطاغية أبعادا كونية، ليقرن المفهوم بعمليات التحول الاقتصادي نحو اقتصاد السوق والتعددية السياسية التي عاشتها بلدان شرق أوروبا والكثير من بلدان العالم الثالث، بدءا من ثمانينيات القرن الماضي. ومع ذلك، بقي المفهوم غامضا وظل يستعمل في حالات شتى كربطه في بعض الأحيان بالحركات الاجتماعية ؛ مما زاد في طابعه الوصفي والمعياري على حساب دقته المفاهيمية المطروحة كقضية معرفية منذ ظهوره.