3 - كان لدولة الرسول جهازها العسكري والمالي والإداري والقضائي. وكان للرسول - كحاكم أعلى وكرئيس دولة - مستشارون ووزراء يديرون مصالح ووزارات. فمن المستشارين كان ”هيئة العشرة“ من المهاجرين الأوائل، ومن ”هيئة الإثني عشر“ كان نقباء الأنصار. وهؤلاء كانوا بمثابة مجلس شورى أو برلمان النبي. أما التشكيل الإداري والسياسي لهذه الدولة، فكان على النحو التالي :
- وزارة التربية والتعليم، وتشمل إدارات : تعليم القرآن، تعليم الكتابة والقراءة، الإفتاء، تعليم الفقه، والإمامة.
- وزارة الحج، وتشمل إدارات : السقاية، وإمارة الحج.
- وزارة الخارجية، وتشمل إدارات : السفراء، والتراجمة.
- وزارة الإعلام، وتشمل إدارات : الشعراء، والخطباء.
- وزارة الدفاع وهي أقوى وأوسع وزارة، وتشمل إدارات : أمراء القتال وجنده (ما يُعرف اليوم برئاسة الأركان ) ، كتّاب الجيش، فارضو العطاء (ما يُعرف اليوم بالإدارة المالية ) ، العرفاء من رؤساء الجند. الحرس النبوي، المستخلفون على المدينة (ما يُعرف اليوم بالحرس الوطني) ، مستنفرو الناس للقتال (ما يُعرف اليوم بدائرة التعبئة العامة)، صـاحب السلاح (ما يُعرف اليوم بأمين المستودعات العامة للجيش) ، القائمون على متاع السفر (ما يُعرف اليوم بدائرة النقل العسكري) ، خاذلو الأعداء (ما يُعرف اليوم بدائرة الاستخبارات العسكرية) ، ومبشرو النصر (ما يُعرف اليوم بدائرة التوجيه المعنوي والإعلام والمصدر المسؤول أو الناطق الرسمي).
- وزارة المالية، وتشمل إدارات : عمّال الجباية والخراج، عمّال الزكاة والصدقات، والخارصون للثمار (ما يُعرف اليوم بدائرة ضريبة الدخل أو الإنتاج. و”الخرص“ هو تقدير إنتاج الشجر من الثمر بالظن والتخمين).
- وزارة الداخلية، وتشمل إدارات : صاحب العسس (ما يُعرف اليوم بمدير الأمن العام) ، العين (ما يُعرف اليوم بدائرة المباحث والاستخبارات)، السجّان (ما يُعرف اليوم بمدير عام مصلحة السجون) ، المنادي (ما يُعرف اليوم بالناطق الرسمي أو المصدر المسؤول بوزارة الداخلية) ، ومُقيم الحدود (ما يُعرف بالجلاد والسيّاف).
- وزارة الصحة وتشمل إدارة متولي التطبيب والعلاج.
- وزارة الأوقاف، وتشمل إدارات : فارضو المواريث، فارضو النفقات، إمامة الصلاة، والآذان.
- وأخيراً، الديوان النبوي، ويشمل إدارات : الكتابة، الترجمة، الخاتم، والحجابة (الحجابة تعني بلغة اليوم التشريفات في الديوان الملكي أو الجمهوري أو الأميري. والحاجب هو رئيس التشريفات. والتشريفات كلمة تركية تعني الاستقبال والتوديع).
وهذا التنظيم السياسي والإداري والعسكري لم يكن موجوداً كله وبهذا التفصيل عند العرب قبل الإسلام. ولا بُدَّ أن النبي قد استعان بخبراء غير عرب وغير مسلمين من البيزنطيين في الشـام والساسانيين في العراق والفرس في إيران وغيرهم، لإقامة هذا الكيان السياسي والإداري في دولته الجديدة.
4 - من الملاحظ أن أخبار الرسول في التاريخ الإسلامي لم تكن أخباراً دينية خالصة فقط بقدر ما كانت أخباراً سياسية وعسكرية وإداريـة أيضاً. بل إن معارك الرسول وحملاته العسكريـة وغزواته وبعثاته السياسية إلى الدول المجاورة احتلت حيزاً كبيراً من السيرة النبويـة كما لم تحتلها في أي سيرة نبوية أخرى من قبـل. وهـو ما يشير إلى أن حياة الرسول كانت مُكرَّسة في جزء كبير منها إلى إقامة دولـة ذات تقاليد عسكرية وإدارية وسياسيـة كذلك. وهو ما أورثـه الرسول للخلفاء الراشدين من بعده، الذين لم يبدأوا بناء الدولة من الصفر، ولكنهم وجدوا أمامهم أُسساً أكملوا بناءها.
5 - لم تكن صفات النبي في التاريخ الإسلامي أنه نبي فقط، ولكن كانت من صفاته الشخصية : القائد، سائس الأمة، الأمير، ولي الأمر، الإمام. فقد قام النبي أثناء حياته – كما لم يقم أي نبي آخر– بالبدء في بناء الدولة خارجياً. فهو الذي عيّن باذان بن ساسان أول الأمراء الحكام من المسلمين في اليمن، وخالد بن العاص والياً على صنعاء أيضاً، وابن أبي أمية المخزومي والياً على كندة والصدف، وزياد بن أمية الأنصاري والياً على حضرمـوت.. الخ. ولنلاحظ هنا أن الرسول هو الذي بدأ مبدأ ”التعيين“ في التاريخ السياسي الإسلامي المناصب السياسية والإدارية والقضائية باختيار شخصي. ولم يترك الأمر في التعيين منذ البداية للانتخاب من قبل المحكومين. في حين أن مبدأ الانتخاب كان سائداً منذ زمن طويــل، ومن أيام الإغريق كعنصر من عناصر الديمقراطية.
وهذه كلها إجراءات سياسية وإدارية بحتة، قام بها الرسول انطلاقاً من اعتبارية شخصيته الدينية والسياسية في الوقت نفسه، وانطلاقـاً من مهمته كمؤسس ”لمُلك ديني“ استمر قيامـه ستة قرون (632-1258م) محصوراً في قبيلة واحدة وهي ”قريش“. وهكذا فإن الرسول عندما مات ”ترك ديناً مكتمـلاً ودولة مهيمنةً على الجزيرة العربية كلها، مترابطين بشكل لا يقبل الانفكاك. كما أن وفاة النبي طرحت مسألة حقيقية واحدة، وهي مسألة الحفاظ على إنجازه من دين ودولة“، وليس على الإنجاز الديني فقط كما قال هشام جعيط في (الفتنة : جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، ص33، 34).
- 5 -
من هنا، فإن القول بأن مهمة الرسول كانت مهمة دينية فقط، تنحصر في الدعوة الدينية فقط، مثله مثل باقي الأنبياء والرُسل من قبله، قول غير سليم.
والقول بأن النبي كان نبياً فقـط، وليس بذي سلطان سياسي قول غير صحيـح أيضاً. والذين يقولون هذا القول ويرددونه ويركزون عليه، يريدون من وراء ذلك الخير والتكريم الجميل للرسول بأن يرفِّعوه إلى مرتبة روحانية مطلقة، بعيداً عن أوساخ السياسة ونجاسات الرئاسة، وتدعيماً لمقولتهم في فصل الدين عن الدولة، وبأن النبي كان نبياً داعية لدين فقط، ولم يكن زعيماً أو قائداً سياسياً. وما فعله النبي محمد في أواخر حياتـه من نشاط وإجراءات سياسيـة وإداريـة ومالية كانت إجراءات وقرارات لم يقم بها أي نبي أو رسول آخر في تاريخ الأديان البشرية كلها، حيث اقتصرت مهمة الأنبياء والرسل من قبل على الدعوة الدينيـة فقط، دون ممارسة أي سلطان سياسي أو إداري، كما فعل النبي محمد. وكان النبي محمد بذلك أول وآخر الأنبياء الذين جمعوا بين الدالين : الدين والدنيا (يُستثنى من ذلك النبي داوود 1000-962 ق.م الذي كان نبياً وملكاً، وكذلك ولده سليمان من بعده. وقد كان داوود ملكاً بأمر السماء لقول القرآن : ”يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق“).
وكـان الإسلام بذلك جامعاً أيضاً لهاتين الدالين : دال الدين ودال الدنيا. وتلك حجة قوية اليوم في أيدي الجماعات الإسلامية والتيار السياسي الإسلامي الداعي إلى إقامة الدولة الدينية. وهذه الحجة نفسها هي التي دحضت بقوة الدعوات الحديثـة المحدودة والقلقة لفصل الدين عن الدولة، كدعوة علي عبد الرازق وخالد محمد خالد ومحمد خلف الله والعلمانيين عموماُ وغيرهـم. وجعلت بعض من قالوا بفصل الدين عن الدولة يتراجعون عن مقولاتهـم – بفعل عقدة الذنب الدينية المتأصلـة في المصريين كأمة دينية منذ أيام الفراعنـة - ويربطون بين الدين والدولـة وينادون بقيام دولة إسلامية كما فعل صراحــة خالد محمد خالد في كتابـه ”الدولة في الإسلام“، وكما كان ينوي عملـه علي عبد الرازق لولا أن أدركـه الموت، كما يقول محمد عمارة.
- 6 -
ومن هنا، كان الإسلام قد بدأ منذ أيامه الأولى سياسياً، واستمر كذلك إلى الآن. ومن الباحثين كمحمد محمود المفكر السوداني من يقول لنا بأن ”دولة المدينة“ التي أسسها النبي واستمـرت حتى نهاية العهد الراشدي كانت دولة ”لا تختلف عن الدولة البيزنطية أو الدولة الساسانية من حيث علاقة المركز بالأقاليم المفتوحة. وكذلك من حيث سير دولة المدينة بعيداً عن الهيمنة الدينية وسيطرة الخطاب الديني. ومن هنا ظهر جيل من الولاة على الأمصار تشوب سمعتهم الدينية الشكوك إلا أنهم فرضوا أنفسهم بحكم قدراتهم الإدارية“.
ومن هنا أيضاً، فإن الإسلام على خلاف مع الأديان الأخرى التي بدأت روحانية وانتهت سياسية كالمسيحيـة واليهودية. فالإسلام ابتدأ وانتهى سياسياً وما زال ديناً سياسياً، بدليل هيمنة رجال الدين على القرار السياسي العربي الآن وفي أكثر الدول علمانية (مصر، الأردن، المغرب، سوريا.. الخ)، ومنذ أربعة عشر قرناً.
ومن هنا كذلك، فمن الصعب على العربي المسلم في الماضي والحاضر أن يفصل بين الدين والدولـة بعد مضي هذا التاريـخ الممتـد، والربـط المتصـل بين الدين - كأيديولوجية سياسيـة - وبين الدولة.
فكانت السياسة والرئاسة في الدولة العربية – الإسلامية الأولى في العهد الراشدي لا تعني نشر الدين وتطبيق تعاليمه فقط، ولكن التوسع في الفتوحات وامتلاك الأراضي المفتوحة وجمع الأموال من الزكاة والجزية وغنائم الفتح، باعتبار أن الاقتصاد الإسلامي في ذلك الوقت قد تحوّل من ”اقتصاد تجارة“ إلى ”اقتصاد حرب“، حيث لا نهضـة اقتصاديـة ولا نهضة علمية ولا نهضة اجتماعية تُعنى بها السياسة. فالدين هو السياسة والرئاسة باعتبار أن الحاكم السياسي كان ”أمير المؤمنين“ فقط، وليس ”أمير المواطنين“ كافـة من المؤمنين وغير المؤمنين. وفي هذا اللقب السياسي/الديني – والذي ما زال سارياً حتى الآن - ما يشـرح لنا كثيراً من المهام المنوطة بالحاكم السياسي في الحكم العربي – الإسلامي.
وهذه النظرة للحكام لم تكُ قاصرة على الدين الإسلامي وحده، بل هي شملت المسيحيـة أيضاً في فترات مختلفة، وكانت تياراً سياسياً جارفاً، عبَّر عنه الفيلسـوف الهولنـدي باروخ سبينوزا(1632-1677) حين ربط بشدة قوية بين الدين والسياسة، واعتبر السلاطين هم الأمناء والشُرّاح ليس للحق المدني فقط، ولكن للحق المقدس أيضاً.
من جهة أخرى، ”فإن الإسلام لا يتسع لمعرفة أي فصل ما بين الدين والدولة، فأفراد الأمة الإسلامية هم عبيد الله، وشرائع الأمة إلهية؛ مُلْكها هو مُلْك الله، وجندها هم جند الله، وأعداؤها هم أعداء الله. وهذا يُلزم وجود حاكم واحد على رأس الأمة، إطاعته واجبة دينياً“ على حد تعبير أيمن الياسيني.
وهكذا أجبنا على سؤال العرب الخالد والمحتدم الآن وهو :
هل الإسلام دين ودولة ؟
ولكن بقيت الآن الإجابة الأصعب على السؤال الأصعب وهو :
هل ”دولة الرسول“ و”دولة الراشدين“ هذه تصلح لنا الآن، كما ينادي بها أتباع ”الإسلام السياسي“ ؟
هذا هو السؤال الكبير.
جوابنا في المقال القادم، فتابعونا►