ولادة نبي ابراهيم (ع)
كان نمرود بن كنعان ملكاً على بابل.. وكان أهل هذه المدينة يعيشون حينذاك عيشة راضية، في رغد نعمة، وبحبوحة، وازدهار!...
وكانوا ينحتون أصناماً يتقرّبون إليها بالعبادة. أما ملكهم نمورد فكان يقبض على السلطة بيد من حديد، حتى أنه ادّعى الربوبية. فطلب من قومه أن يتخذوه إلهاً،.. فهو الآمر الناهي، وصاحب السلطان، يفعل مايشاء!.. ثم، أليس هو أجدر بالعبادة من هذه الاصنام الصمّاء، التي لاتنطق ولاتبين، ولاتسدي خيراً ولاتدفع ضراً؟.
في هذه البيئة التي عمّها الفساد، وفي بلدة صغيرة تدعى (فدام آدام)، ولد إبراهيم لأبيه "آزر"، وترى بعض الروايات أن "آزر" هذا كان جدّ ابراهيم، لاأباه. وهكذا فتح الصغير عينيه على قوم اتّخذوا الاصنام أرباباً من دون الله.. وكان آزر نحّاتاً. يصنع لقومه التماثيل والأصنام،.. فكان داعيةً لها، ومروّجاً لعبادتها،.. وهكذا كانت تقوم حياة آزر على الدعوة إلى الإثم، والفتنة، والغواية، والضَّلال!..
إبراهيم متأمّلاً:
ولكنّ إبراهيم، بما آتاه الله من نور في قلبه، وهدىً في بصيرته، ورشاد في تفكيره في ملكوت السماء والارض، توصل الى الايمان، بعفوية الفطرة التي فطر الله الناس عليها، بأن لهذه الارض ومن عليها، والسماء التي تزينها الكواكب والنجوم، رباً خالقاً، وحكيماً مدبّراً، وإلهاً صانعاً أتقن خلق كل شئ، وأحكم إنشاءه، فقدّره تقديراً!...
ولطالما كان يتأمّل في الليل نجوم السماء وكواكبها، فبعضها دائم المسير لايستقر في مكان في هذه السماء اللامتناهية الاتساع، وبعضها كالثابت في مكانه، لايتحرك أو، هو يظهر كذلك، وماهو بثابت!..
وكان يلاحق القمر بنظراته، متأمّلاً إيّاه، فكأنه بين هذه النجوم، وقد أحاطته هالة من نور شفّاف، كالملك تحفّ به حاشيته، والرّعيّة، فهو يتهادى بينها بزهو وخيلاء!..
وعندما يتقدم الليل، ينحدر هذا القمر الى الافق الآخر، وكأنه في ارتحال دائم، لايتوقف!..
وفي الصباح، يتأمّل إبراهيم الشمس، تغزو بنورها الارض من الأفق الشرقي، فتملأها ضياء، وتغمرها نوراً، وتبعث فيها دفئاً وحياةً..
وتتهادى في قُبّة الفلك بعظمة وسلطان، كي تغيب في الأفق الغربي، متحدّرة اليه بمهابة وجلال. فيهبط على إثر ذلك الظلام، وتبدأ النجوم تتلألا في كبد السماء ويطلع القمر من جديد، متناقصاً ليلة بعد ليلة، حيناً متزايداً، حيناً آخر، وهكذا تستمر الحياة بين ليل ونهار، وتعاقب فصول، في انتظام رتيب مهيب، واتساق عجيب، غريب، فتبارك الله أحسن الخالقين!..
لقد آتى الله إبراهيم رشداً، ورُجحان لبٍّ، ونفاذ بصيرةٍ..
ويتطلّع إبراهيم بعد ذلك إلى قومه، عبدة هذه الأصنام، فيُشفق عليهم، وهم دائبون على التضرّع إليها، والإعتكاف على عبادتها، وتقريب الأضاحي إليها، والقرابين!.. كما كان يُشفق إشفاقاً شديداً على هذا المليك النمرود، الذي ادّعى أنّه إله، وما هو بذلك، وليس له ذلك،... فهو إنسان عادي، رغم ماأوتي من عريض مُلك، وعظيم سلطان،.. وهو يحيا، كبقية الناس الذين حوله، ويجري عليه مايجري عليهم..
فهل باستطاعة هذا المدّعي الألوهية أن يتدخل في حركة هذه الكواكب، فيغيّر في نظامها، أو في تعاقب هذه الفصول، فيؤخّر بعضها، ويقدّم بعضها الآخر، أو أن يُحيي ويميت؟... وأنّى له ذلك، إن سوّلت له نفسه هذا الإثم العظيم؟..
وكان إبراهيم يخرج إلى البرّيّة يرعى قطيع أغنام كبيراً، فيسرّح نظرة في الطبيعة:
هذا عشب ينجم (أي: يطلع) كالطحلب اليوم، سيصير نبتاً مستوياً على ساقه بعد أيّام، وقد تفتح عن زهر هنا، وانشقّ عن حب هناك..
وذلك برعم صغير صغير، كحبّة خردل، لايلبث أن ينمو ليصبح بعد شهور أملوداً (أي: غصناً ليّناً) على شجرة، طريّ العود، وفرعاً منها صلباً، شامخاً، .. بعد سنين!..
إنها الحياة، تتسق في إنسان، وفي حيوان، وفي نبات، وربما في جماد أيضاً، اتّساقاً منتظماً، مقدوراً، في جميل معادلة، وبديع حساب... فلا تفاوت في صنع، ولاخلل في تركيب. ولكنها وحدة هائلة، رائعة، بدءاً من الجرم الصغير، كالذّرّة، لايكاد يبين، وانتهاءً بهذه الأفلاك السابحات في رحيب السموات، وقد أحسن إنشاءها خالق لها واحد، ومبدع لها قدير، فأحسن بديع هندستها، وقدّرها تقديراً... فيُفعم قلبُ إبراهيم إيماناً بالله. وتسليماً لحكمته البالغة!...
رب أرني كيف تحيي الموتى:
وتحدث إبراهيم نفسه، يوماً، حديثاً غريباً:
- لوشاء الله، لأراك كيف يُبعث الموتى أحياءً من جديدٍ...
- أولم تؤمني يانفسُ؟..
ويزجرها إبراهيم زجراً عنيفاً، وقد خاف عليها من كيد الشيطان ووسوستِهِ..
- بلى!... ولكن، لأزداد إيماناً، وثقةً، واطمئناناً.
ويشفق إبراهيم على نفسه، وفيها، حذراً من فتنةٍ تعصف بها في أودية المهالك والضلال. ثم يطرق إلى الارض ملياً، يفكّرُ، ويستعرضُ الأحوال، فيذكر آدم وزوجه اللّذين أخرجهما الشيطان، بوسوسته لهما، من الجنّة، فيستعيذ بالله من الشيطان الرّجيم!... ويعاوده حديث نفسه، فالأمر لايخرج عن نطاق حظيرة الإيمان بالله، بل الثِّقة به، فلا خطر، إذاً، ولا حرج!..
فيرفع إبراهيم بصره إلى السماء، ضارعاً بقلبٍ سليم:
(رب أرني كيف تحيي الموتى،قال: أولم تؤمن؟، قال: بلى، ولكن ليطمئنّ قلبي)
وينظر الله إلى قلب إبراهيم فإذا هو طافح بالإيمان حتى اليقين، فلا شكّ يساوره، ولاارتياب يخامرُهُ، فاتّخذهُ خليلاً!..
ويستجيب الله تعالى لطلب خليله إبراهيم، فيأمُرُه أن يأخذ أربعة من الطّير، مختلفات، فيضمُّها إليه، ثم يقطع أجسادها حتى تصبح أشلاءً، يوزّعها على قمم أربعة أجبُل، محاذٍ بعضُها بعضاً، ثم يستدعي إبراهيمُ بعد ذلك هذه الطيور إليه..
ويسرع إبراهيم يفعل ماأشار به الله تعالى عليه، فنفسُه توّاقةٌ إلى مشاهدة آية البعث قبل يوم البعث، ويقطع أوصال الطيور الأربعة، ثم يوزعها على الجبال.
ويعود إلى مكانه الأول.. ويستدعي إبراهيم إليه الطيور.. وإذا بأشلائها تتطاير من جبل إلى جبل، فينضم بعضها إلى بعض، كل إلى جنسه ونوعه فتعود، كما كانت، طيوراً، قبل أن تتقطع منها الأوصال، وتُقبلُ نحوه، ساعيةً، مرفرفةً بأجنحتها، لها زقزقةٌ وتغريدٌ، وكأنها تسبّح الله في ملكوته الأعلى!.. ويفيض قلبُ إبراهيم إيماناً ونوراً، ويطمئن قلبُه اطمئناناً إلى عظيم قدرة الله، تزول الجبال ولايزول!.. وتسكنُ إلى ذلك نفسه سكون الواثق، وقد رأت معجز الآيات، ودامغ البراهين!..
إبراهيم يدعو أباه:
وآتى الله إبراهيم من لدُنهُ حكمة، وحجّة بالغة، فأرسله نبيّاً إلى قومه، يدعوهم إلى عبادة الله الواحد القهّار!.. بديع السموات والأرض، وربّ العالمين جميعاً!.
وابتدأ إبراهيم دعوته بأبيه!..
فأبوه نحّات أصنام ماهر، يعيش مما ينحت إزميله من تماثيل يتّخذها قومُه آلهةً، يعبدونها من دون الله.
ومهّد إبراهيم لدعوته أباه آزر، تمهيداً رفيقاً، رقيقاً، فيه دعةٌ وتلطُّفٌ، وجليُّ بيان!.. فأثار فيه مكامن عاطفته كأب، وخاطبه بالحسنى، ومنتهى التهذيب، والأدب الجميل!.
فما الذي يدعوه لعبادة هذه الأصنام التي لاتدفع عن نفسها، أو، عن غيرها، ضُرّاً، ولاتُسدي لهم نفعاً؟..
وأخذ إبراهيمُ، باللّيّن من القول، يزهّدُ أباه في عمل هذه الأصنام، والعُكوف على عبادتها، وهي رمز الشيطان، الداعية إلى سبيل الغيِّ والضلال!..
وخاف إبراهيم، أن يستصغر أبوه- وهو الشيخُ الكبير- شأنه، وهو الفتى الغرُّ، الذي لم تعرُكه، بعدُ، الأيّام، فقال له
ياأبت، إنّي قد جاءني من العلم مالم يأتك)
فالله يجتبي (أي: يختار) من رسله، من يشاء، ويصطفي من يريد،..
وماكان طول العمر شرطاً من شروط الحكمة، والهُدى، أبداً!.. فَرُبَّ فتىً يافع آتاه الله من الرشد في عقله، والنور في قلبه، مالم يؤت أجلاّء الشيوخ!.. ولكنَّ آزر قابل دعوة إبراهيم بالتّجهُّم، والنّفور، والقول الغليظ،.. منكراً عليه ما يدعوه إليه،...
فمتى كان للأغرار -على حداثة سنّهم- أن يرشدوا كبار الشيوخ، الذين عجموا عود الحياة (كناية عن التجربة والخبرة)، فانتهوا إلى مزيدٍ من خبرةٍ، ومُكتسب تجاريب؟..
ولكن إبراهيم مازال يتلطّف في دعوة أبيه، الذي هدّده بطردٍ وهجرانٍ...
فأنّي لهذا القلب القاسي، كالحجر الجُلمود، أن يرقّ؟...
وأنّي لهذه البصيرة العمياء أن يتسرّب إليها نور الحقّ والإيمان؟.. وما ازداد آزر إلاّ إعراضاً عن إبراهيم، ونفوراً!..
وبطرفٍ باكٍ، وغصّةٍ في الحلق، ودّع إبراهيم أباه. فليس للحق أن يجاور الظّلام! وليس للإيمان أن يعايش الكُفران!.. وقال له، وهو يغادر عتبة البيت: (سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيّاً. وأعتزلكم وماتدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألاّ أكون بدعاء ربّي شقيّاً..)
وهكذا اعتزل إبراهيم أباه، كي لايكون له على الكفر ظهيراً!...
إبراهيمُ يدعو قومهُ:
وخرج إبراهيم إلى قومه يدعوهم إلى سبيل الرشاد. وسلك في دعوته إياهم طريق الحوار، والجدل الموصل للبرهان المقنع واستدرجهم في مجادلته إيّاهم: (ماهذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون)
وأفاضَ قومُهُ في الحديث عن أصنامهم، وتناولوها بالتقديس والتعظيم، فلها حُرمة لاتمسّ، ولها شأنٌ، في حياتهم، خطيرٌ!..
ولم يعبأ إبراهيم ببهرج قولهم، إنّه لمزخرفٌ غرورٌ،... وإن هي إلا أصنامٌ اتّخذوها آلهةٌ، فلم اللَّفُّ والدّورانُ؟.
وجابههُم بصريح العبارة، وعفويّ المقال: ( إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً. إنّ الذين تعبدون من دون الله لايملكون لكم رزقاً، فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له، إليه تُرجعون)
فاندكّت حجّتهم، وانقطعوا!...
حقاً، إنها لأصنامٌ صمّاءُ، بكماءُ، لاترى ولاتسمعُ، ولاتضرُّ ولاتنفع!.
وخيّل إلى بعضهم أنهم هدوا للقول الصّواب: ( قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين )
إنّ التقليد الاعمى، الذي لايستبصر!.. وتقديس الأقدمين في كل مايفعلون. ولو كانوا على غير هدى!.. ( قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين).
ثم أعلن فيهم دعوته الصُّراح، كفلق الصّباح: (قال بل ربكم ربّ السموات والأرض الذي فطرهنّ وأنا على ذلكم من الشاهدين) وانفجر الموقف بين المتخاصمين المتجادلين، وقد توقّف كلٌّ منهم على الرأي المؤمن به، لايعدوه!... ولم يتزعزع موقفُ إبراهيم، وهو يرى اجتماعهم على الضّلال، وتفرّده بالحق...
وراعهُ موقفهم العنيد، وخصامهم اللّدود، وكأنّ الشيطان ينفُثُ على ألسنتهم كل كفرٍ وبهتان!..
أمّا، وقد منّ الله عليه، من دونهم، بالهداية، فلم ينقطع إبراهيم في كلّ مناسبة، عن دعوتهم إلى الإيمان بالدّين الحق الذي جاءهم به، دين الله الحنيف، وشريعته السّمحاء... ونبذ كل صنم، حجراً كان أم خشباً، محذّراً إياهم من الوقوع في حبائل الشيطان، الذي يصُدُّ عن سبيل الله صدوداً..
وصرف ابصارهم، وبصائرهم إلى بديع خلق الله، وباهر قدرته، وجليّ حكمته، وعظيم سلطانه، في أرض وفي سماء، معلناً تسليمه لأمر الله، وقضائه،... وتمرّده على ماهم عليه من ضلالٍ، وعداوتهُ لهُم ولما يعبدون من دون الله.
(قال أفرأيتم ماكنتم تعبدون. أنتُم وآباؤكم الأقدمون. فإنّهم عدوٌ لي إلا ربّ العالمين. الّذي خلقني فهو يهدين. والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضتُ فهو يشفين. والذي يُميتُني ثمّ يُحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدّين) ثم غادرهم بعد أن لم تنفع حُجّةٌ، ولم يُجدِ بُرهانٌ، ولم يُغنِ إنذار، مبيّتاً في نفسه أمراً خطيراً، له وقعُ الزّلزال تدميراً!..
إبراهيم يُحطّم الأصنام:
كان من عادة قوم إبراهيم أن يخرجوا في عيدٍ لهم إلى ظاهر المدينة يلهون ويمرحون، بعد أن يتركوا أمام أصنامهم صنوف الطّعام.
ودعوا إبراهيم إلى مشاركتهم فرحة العيد، والخروج معهم إلى البرّيّة، لعلّ نفسه تجد في ذلك استجماماً مما تعاني من حصر وضيق، فتنصرف عن هذه الدّعوة، أو تخفّفُ من حدّة غلوائها، على الأقل!..
فاعتذر إبراهيم إليهم بأنّهُ مريضٌ..
وليس المريض جسده، ولكن، نفسه التي كانت تتمزّق على قومه حسرةً وأسىً، لما هم فيه من ضلال، وكفر بأنعم الله!..
ولمّا خلت المدينة من أهلها -وقد خرجوا منها جميعاً، يسرحون ويمرحون ويلهون- دخل إبراهيم بيت عبادتهم، فوجد الأصنام تملأ رحاب هذا البيت، منها الصغير، ومنها الكبير، ومنها دون ذلك، ووجد صنماً ضخماً، يتوسّطها جميعاً، إنه كبير هذه الأصنام، فلا شك بأنه عظيم الآلهة، وسيّدُها الخطيرُ!..
ورأى من ضروب الطعام أمامها صُنوفاً، وألواناً!..
فابتسم إبراهيم ابتسامة ازدراء، ورماها بنظرة تنضحُ احتقاراً. فيالهوان هذه التماثيل!..
وتقدم إبراهيم، إلى الأصنام، وكأنه يخاطبها، عابثاً، محتقراً..
ولمّا لم تجب، وأنى لها ذلك؟... قدم إليها صحاف الطعام الفاخر، طالباً إليها تناول المستطاب منه. فلم تمتد منها يد.
فصرخ بوجهها، وكأنه يشتمها: مابكم؟.. ألا تنطقون؟.. ولم لاتأكلون؟.. وران (أي:خيّم) على المكان جوٌ ثقيلٌ ثقيلٌ، ورهيبٌ رهيبٌ!...
وتحولت سخريةُ إبراهيم إلى غيظٍ مُحنَقٍ، وقد رأى بعضها مكشِّراً، كمن يضحك،.. مستهزئاً.. واستبدّ به الغضب،.. فتناول من زاوية فأساً انهال بها على الأصنام ضرباً شديداً فتهاوت أمامه،.. واشتعل غضبُه، وماكان غضبُه إلاّ لله، وأخذ يحطّم من الأصنام الرؤوس والأعناق، فتناثرت تحت قدميه قطعاً من حجارةٍ!...
ثم غادر بيت عبادتهم، بعد أن امتلأ ركاماً وحُطاماً، باستثناء صنمهم الأكبر، عظيم آلهتهم، فقد أبقى إبراهيم عليه، لغاية في نفسه، ولسوف تظهر بعد حين!..
وعاد القوم في آخر النهار منتشين، يهزجون طربين، وتوجّهوا إلى بيت عبادتهم، فرحين! وما أن دخلوه حتى تسمّرت أقدامهم في مكانها، منذهلين، وقد اقشعرت منهم الأبدان!.. الصنمُ الأكبر، وحده، في مكانه قائم،... بينما تناثرت بقيّةُ الأصنام إلى قطع من حجارة غصّ بها بيت عبادتهم،... وشعروا، وكأن صفعةً لسعت وجوههم جميعاً فياللهوان!..
وصرخ سادنُ البيت (أي: المسؤول عنه) وآخرون: (قالوا: من فعل هذا بآلهتنا، إنه لمن الظالمين)
فأجاب بعضهم من أقصى المكان، ممّن سبق لهم وحاوروا إبراهيم: ( قالوا: سمعنا فتىً يذكرُهم يقال له إبراهيمُ)
إنها فعلة إبراهيم الشنعاء، إذاً، الصارخة بالتحدي والتحقير!..
وإنهم ليعرفون هذا الفتى جيداً، ينطق بالحجة والبرهان... ولطالما نعى عليهم عبادة هذه الأصنام، مسفّهاً أحلام عابديها، معلناً براءته منهم ومنها، مظهراً لها لدد الخصام، حتى التهديد!..
وها قد بلغت به الجرأةُ إلى تنفيذ تهديده، وما توعّد به، فيا للعار!..
وعلت الصّرخات: ياللعار!.. الثأر، الثأر!..
ووجد القوم في ذلك فرصة سانحة للتخلص، نهائياً، من إبراهيم.. فهو يستحق على فعلته هذه، كلّ عقابٍ وعذابٍ.. فأرسلوا من يأتي به، ليحاكموهُ على أعين الناس.. وكان يوماً مشهوداً، وقد اجتمع أهل المدينة ليَروا ما سيحلُّ بهذا الفتى الّذي له جُرأةُ المجانين!..
المحاكمة:
وسيق إبراهيم إلى بيت العبادة مخفوراً، وقد استبدّ بالجماهير فائر الغضب، فصرخت بوجهه، وتناولته بألسنتها، وتطاولت إليه أيدٍ، فحيل بينها وبينه.. ومَثُلَ إبراهيم أمام كبير القضاة، وهو نفسُه سادنُ بيتِ العبادة، وقد تدلّت لحيتُه الكّةُ البيضاء على صدره، كالمنديل الناصع البياض..
ورماه القاضي بنظرة غضبى، وهو يكاد يتميّز غيظاً، وقد تراقصت شفتاه، لفرط تأثُّرٍ، فلم يأبه إبراهيم لذلك، وتجاهل مايعتري القوم من غضب جارف...
ورانت لحظات صمت ثقال، وقد أخذ إبراهيم مكانه أمام القضاء، شامخاً بالتحدي. وبوجيز العبارة، سألهُ كبير القضاة! ، ( أأنت فعلتَ هذا بآلهتنا ياإبراهيم)
وظهر، وكأن إبراهيم استدرجهم إلى حيث يقصد، من حيث لايشعرون!..
فأجاب، وكأنّه يعبث بأحلامهم: (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون)
وبلمحة البرق الخاطف أدرك الحضور غاية إبراهيم من إبقاء الصنم الأكبر على حاله كالشاهد على ماحدث، فلم يتحوّل، كغيره، جُذاذاً مهشّماً!.
إنّه أسلوب إبراهيم الحسّيُّ في حوارٍ له، دائماً، وفي نقاشٍ!.. وماعهدوه إلاّ ساطع الحجة، دامغ البرهان!..
فنظروا إلى الصنم الجامد، مشدوهين، حيارى!..
وازدرد القاضي بريقه، مطرقاً، وكذلك فعل من حوله.
فلقد آتى الله إبراهيم من الحجّة البيّنة التي تصل إلى أعماق النّفس، فتُحرّك فيها كوامن الأحاسيس الفطرية، والمشاعر العفوية.
إن إبراهيم لينطق، وأيم الله، بالصواب،... ولقد ظلم القوم انفسهم ظلماً بيّناً باتّخاذهم من الحجر الذي لايُقدّم ولا يؤخّر، ولاينفعُ ولايضُرُّ، رباً معبوداً... وصفعتهُم الخيبة بكفٍّ من جليدٍ!.. فتراجعوا مقهورين، ونكصوا على أعقابهم، مخذولين!... ، (لقد علمت ماهؤلاء ينطقون )
وهذا ماأرادهُ إبراهيم أن يُفصحوا عنه، ويعترفوا به من تلقاء أنفُسهم، أمّا، وقد اعترفوا هم بذلك، فقد انبلج الحق وبانت الحجّة، وقام البرهان على ذلك والدليل!.. فما من إله إلا الله الواحد القهّار!..
وهكذا حجّهم إبراهيم بتبيانه، وظهر عليهم ببرهانه،.. وهو، إلى ذلك، مايزالُ يتوجّهُ إلى قرارة أنفسهم، لعلّها تهتدي إلى الحقِّ المبين، وبرد اليقين: ( قال أفتعبدون من دون الله مالاينفعكم شيئاً ولايضركم. أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون).
فانقطعوا!.. وبان عليهم الانكسار!.. وارتسمت على وجوههم علائم الخيبة والخزي... وخافوا على أنفسهم، وعلى مكانتهم بين قومهم، وعلى آلهتهم!... فسعوا للخلاص من هذه الورطة، على أيِّ حال، وحفظ ماء وجوههم كيفما اتّفق،... فلجأوا إلى المكابرة والعناد. والإصرار على الباطل الأثيم، وتذرعوا بالقوة والسُّلطان، يتسترون، بهما، مما حاق بهم من مرير الخذلان!...
فصاحوا: (حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين).
يانار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم
وتسابق القوم يجمعون الحطب الجزل، حتى اجتمع لديهم منه مايكفي لحرق مدينة بكاملها!...
وكانت المرأةُ المريضة منهم، تنذر، إن شفيت من مرضها، وعوفيت من سقمها، أن تأتي بحمل من الحطب لحرق إبراهيم!..
وتكدّس الحطبُ أحمالاً أحمالاً!..
إنهم بذلك يتشفّون من هذا الذي رماهم بكل ضلال وغيّ، وسفّه أحلامهم، لما جروا عليه من قديم العادات، واجترأ على تحطيم أصنامهم حتى تركها جذاذاً مُهاناً!...
وأُتي بإبراهيم موثوقاً..
وأُلقي بين أكوام الحطب، ثم كدّس فوقه من الحطب الكثير،..
وأضرمت بالحطب النارُ، فاستعرت وعلا لهيبُ النّار، وارتفع دخانُها، وسُمِعَ لصوتها فحيحٌ، وكأنها جهنّمُ قد فتّحت أبوابها!..
وصاحت الجماهير المهووسة، وقد أخذتها سورة الانتقام: مزيداً من النّار، مزيداً من النار!.. فطرح في النار كلّ مايحترق، فزادت تأججاً وسعيراً، واشتدت زفيراً..
وطرب القومُ، وكأنّهم في عرسٍ، فاليوم يوم إبراهيم!.. ومَضت ساعاتٍ،... ثم خمدت النار، بعد ذلك، وخبت!...
وتقدم القوم ليروا ماحلّ بإبراهيم!..
فكشفوا عنهُ الجمر الكبير، من بعيد، فسُمِعَ له تقصُّفٌ. ولفح وجوههم من ه وهج مستعر!... فما زال للنّار أوار، بعد، وحرارة، فابتعدوا...
ولكنّ بعضهم لاحظ حركةً تحت الجمر المتّقد، وسمع صوتاً يذكر ربّ الارض والسّماء... فجمد الدّمُ في عُروقهم!.. وتكاثروا، وازدحموا، وتقدّموا يزيحون الجمر، لايعبأون بلفح وهجة اللاسع!.. وإذا بإبراهيم يخرجُ عليهم من قبل الجحيم، يُزيحُ عنه بيديه المرتعشتين متلظّي الجمر، وينفضُ الرّماد، ويطأ على النّار، متوجّهاً إليهم، وهو يرتعدُ برداً!...
فبُهتوا، وعقلت المُفاجأةُ السنتهم، وسلبت الدهشة صوابهم، ففغروا أفواههم محملقين!..
إنها المعجزة الباهرة الكبرى!.. فآمن بإبراهيم نفرٌ من قومه قليلٌ، لم يجدوا إلا أن يكتُموا إيمانهم، تقيّةً، وحذراً!...
إبراهيم ونمرود:
وترامى إلى نمرودٍ الملك - الإله، خبرُ إبراهيم، وتناهت إليه المعجزة الكبرى. فاستدعاهُ إليه، ودار بينهما هذا الحوار:
نمرود: مالك ولهذه الفتنة التي زرعتها بين قومك، فكانت بينهم بذار شقاق وخلاف... وأنّي لك أن تتجرّأ على آلهتهم، فتعيبها، وتسبُّها، وتحطّمها، بعد ذلك، تحطيماً، وعلى أحلامهم فتُسفّهها تسفيهاً،... وعلى ما درجوا عليه من قديم عادات ومعتقدات فتدعوا إلى نبذها؟... وكأنك تعلن عليهم، يا إبراهيم، بذلك، حرباً ضروساً!...
ومن هو هذا الإلهُ، غيري، الّذي تدعو إلى عبادته، وأين تُراه يكون متّخذاً مكاناً؟
وبجنان ثابت، وقلبٍ مفعمٍ بالإيمان واليقين، أجاب إبراهيم، مطمئناً: (ربّي الذي يحيي ويميت...)
ولكنّ نمروداً يكابر، وتأخذه العزّة بالإثم. فللسلطان جبروت طاغ!... فيداور في جداله، ويراوغ، كالثعلب، مخاتلاً!..
ويتصوّر نفسه مالكاً رقاب النّاس، فهم له سوقة وعبيد، وله عليهم سلطان قاهر!... فإن شاء أنعم على من شاء الإنعام عليه، وله أن يسلب نعمة من يريد، إن أراد منه انتقاماً!.. وإن شاء قتل من رعيّته من يشاء، وعفا عمّن يريد، إن رأى صفحاً!...
فهو -والحالة هذه- كإله إبراهيم، يرزق من يشاء، ويحرم من يشاء...
ويقتل من يشاء، فيميتهُ، أو كأنّه هو الذي أماته..
ويعفو عمن يريد، فيحييه، أو كأنه هو الذي أحياه..
وتنفرجُ أساريرُ نمرود، وقد التمعت بذهنه هذه الأفكار، فيبادر: (أنا أُحيي وأُميت)
ويستطرد في هذا المعنى استطراداً ويمعنُ تمثيلاً وتشبيهاً،.. فلا فرق بينه، إذاً، وبين إله إبراهيم..
و يبتسم إبراهيم بلطف، كالمشفق على هذا الطاغية الجبّار.. فمتى كان المخلوق خالقاً، ومتى كان المرزوق رازقاً؟..
ولكنه جبروت عزّة السُّلطان!..
ويري إبراهيم نمرود بديع خلق الله، ورائع حكمته، وعظيم سُلطانه، في كل ماتقع عليه عين، في الأرض وفي السماء.. فالله خالق كلّ شئ، وبيده ملكوت كل شئٍ...
فيهزأ نمرود بما يسمع..
عند ذلك يتّجه إبراهيم إلى إثبات عجز خصمه، وخطل رأيه، وسفه جبروته، فيكرُّ عليه موهناً كيده، ويأتيه من حيث لم يحتسب، قائلاً له: ( إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب.. فبُهت الذي كفر)
وبان عليه العجز، وظهر عليه الحصر، وانقطعت حُجّته، فصمت، مغلوباً، مبهوراً!..
وأوجس نمرود من إبراهيم خيفة.. فهو يمثّل خطراً عليه، جدّياً، وداهماً... فصرفهُ!.. وبثّ حوله العيون والأرصاد، وتربّص به الدوائر للإيقاع به.
وأحسّ إبراهيم بما يبيِّتُ له هذا السلطان الغاشم،.. وبالتضييق، يأخذ عليه كل طريق، وكل مجال، وسبيل!..
ولم يجد إبراهيم مندوحةً (أي: بُدّاً) من الفرار بنفسه، وبدينه، من هذه الارض التي لم ينم له فيها غرس، وقد بدأ يغزوها قحط وجدب...
وترك قومه، آسفاً، لما سيحلُّ بهم من عذاب أليم،.. فالله آخذهم، لامحالة، بعد مغادرته إيّاهم، أخذاً وبيلاً!...
ويمّم إبراهيم وجهه شطر فلسطين مهاجراً، وهو يحمل على كاهله، وفي قلبه ديناً سماوياً جديداً... مستبدلاً بالأهل أهلاً، وبالأوطان أوطاناً!...
إبراهيم في حرّان:
وفي حرّان، على الطرف الشمالي من بلاد الشام، ألقى إبراهيم عصا ترحاله وكان أهل حرّان أيامذاك، يتعاطون علم النجوم والأفلاك... وكان يصل بهم الأمر في تعظيم بعض النجوم، وتقديسها، إلى درجة عبادتها.
ورأى إبراهيم منهم ذلك، فأنكره، دون أن يفصح لهم عن هذا الانكار.. ولجأ كعادته، إلى سبيل الحوار، الهادئ، المستطرد، الموصل الى الاقناع والتسليم.
فلمّا جنّ على إبراهيم الليل، وكان بين جماعة من الحرّانيين، رأى في السماء نجماً ساطعاً هلّل له من حوله، ممّن نزل بين ظهرانيهم (أي: بينهم) من أهل حرّان،.. وكبّروا له تكبيراً، وخرّوا له سُجّداً...
فعظم على إبراهيم مارأى.. وتبرّأ إلى الله من أن يُشرك بعبادته أحداً، وتبرّأ من هؤلاء الجهلة، المتظاهرين بالعلم، السادرين في غياهب الكفر ومتاهة الضلال!...
ولكن إبراهيم جارى القوم في ماهم فيه سادرون، متّخذاً ذلك سبيلاً لحجّة إقناعهم، فقال على سبيل المجاراة، ولكن إلى حين: (هذا ربي!..)
وبعد ساعات افتقد إبراهيم النجم فلم يجده.. لقد أفَلَ، وغاب، ومعه، أفلت كواكبُ، وغابت نجومٌ، ولايحصيها إلا الله، عدداً!..
فقال: (إني لاأحبُّ الآفلين).
ثم عرض بهذه النجوم المتغيّرات، الدّائرات كالحيارى، وهي تسبح في أفلاكها، وأعلن بغضه لها، وبراءته من عبادتها.. ( فلمّا رأى القمر بازغاً قال هذا ربي..) استدراجاً لهم، ومُجاراةً لعقولهم، وتمشياً مع ماهم عليه من دينٍ.. ( فلما أفل قال لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضالّين)
وهكذا بيّن إبراهيم لمن حوله من عبّاد هذه الكواكب والنجوم، أنّ الله الذي هو خالقُ كل شئ، ورب كل شئ، هول الهادي، والآخذ بيد عباده، المتطلّعين إلى عبادته..
ولمّا لم يجد إبراهيم من القوم معترضاً، أعلن براءته من هذه الآلهة التي ماأن تطلع حتّى تغيب،.. ملفتاً أنظار من حوله إلى أن هنالك خالقاً عظيماً، ومدبّراً قديراً، لكلّ مايتحرك في جوف سماء، ومايدبُّ على وجه الثّرى. أو يغوص في لجّة ماء!.. فهو وحده الجدير أن تتجه إليه أبصار الناس وبصائرهم، فيتّخذونه إلهاً معبوداً، وربّاً مربوباً!.. (فلمّا رأى الشمس بازغة قال هذا ربّي، هذا أكبرُ..) وحقّ لإبراهيم أن يقول ذلك، تدرُّجاً، ومجاراةً..
فللشمس نورٌ باهرٌ وسلطانٌ قاهرٌ، أين منه نجم يتحرك في كبد السماء، على استحياء، أو قمر يتهادى بخفر في جوف الظّلماء!...
فلمّا أفلت، أعلن براءته من كل هذه الآلهة جميعاً بدءاً من النجم الصغير وانتهاءً بالشّمس أخطر الكواكب طُرّاً!.
فحاجّهُ قومه في ذلك، فحجّهم، وظهر عليهم. وقد آتاه الله من لدنهُ الحجّة البالغة، وفصلَ الخطابِ!..
وأشفق عبّاد النجوم على إبراهيم، الكافر بعبادتها، المحقّر شأنها، أن تطاله بأذاها، وشرّها المستطير، فابتسم مستهزئاً بهم، وبما يعتقدون. فهم الأحق أن يطالهم غضب الله، ويعمّهم عذابه الأليم!.
ولمّا رأى ابراهيم إصرارهم على وثنيتهم، عزم على مغادرة هؤلاء القوم الكافرين، فأرضُ الله واسعة، ورحمته وسعت كل شئ، وهو ولي عباده المؤمنين!.. وزاده تصميماً على ذلك ما شعر به من جفوة القوم إياه، وتباعدهُم عنه.
يضاف إلى ذلك قحط وجدبٌ عمّا البلاد، وغلاء أسعار أرهق كواهل الناس، فناؤوا تحت فادح وطأته، فجمع أمتعته، وماله، وأخذ بيد زوجه سارة، وسار متوجّهاً الى أرض مصر!..
إبراهيم في مصر:
وانتهى بإبراهيم، إلى أرض مصر، المسير. وكان يحكم مصر في تلك الحقبة من التاريخ أحدُ ملوك العرب العماليق..
وشاهد سارة- التي كانت على قسط من الجمال، وافر- أحد بطانة الملك ومستشاريه، فسحرهُ جمالُها الأخاذ، وأخذ يصف لمليكه ماتتمتّعُ به هذه الوافدة الجديدة إلى أرض مصر من جمال فتّانٍ. فأغرى الملك بها، ولم يلبث الملك أن ارسل من يُحضرها، وزوجها، إلى قصره.
ولمّا مثُل إبراهيم بين يدي الملك، سأله عن هذه الحسناء التي يصحبُها.. فأنكر إبراهيم، على الملك، هذا السؤال، وأوجس منه خيفة، مرتاباً، وانطلق لسانُ إبراهيم بالإجابة: إنّها أختي..
ولم يكذب في ذلك إبراهيم.. فسارة أختُه في الدين، وفي اللّغة، وفي الانسانية. ورفيقةُ دربه في رحلة هذا العمر الطويل، الملئ بالمشقّات، الزاخر بالصّعوبات.
وصمت الملك، وبان في عينيه التماع!..
وتنفّس إبراهيم الصُّعداء، فلو أعلن للملك أنها زوجهُ لسعى بكلّ مكيدةٍ كي يتخلّص منه، لتخلصَ سارةُ له وحده، دون العالمين!..
وأمر الملك بسارة الى قصره، يتخذها له زوجاً..
وأسرّ إبراهيم في أذن زوجه- وهي في طريقها إلى مخدع الملك-، ماأجاب به الملك من أنها شقيقته، لازوجه.. وأومأت سارة برأسها، وقد أدركت مايريد!..
وأخذ النسروة في القصر الملكي يعددن سارة لليلة زفافها للملك، فألبسنها فاخر الثّياب، وزيّنّها بكلّ ثمين، وأحطنها بوفير البذخ والأبّهة والجلال،...
فذات الحُسن المدلّ، المترف، الآسرة بجمالها لبَّ الملك، يليق بها كل إكرامٍ!..
وبموكب نسوي، باذخ الأناقة والتّرف، زُفّت الحسناءُ الخلوبُ، عروساً للملك، جديدة تضاف إلى العشرات غيرها، من نسوة الملك، وحظيّاته، النواعم، كالدُّمى!..
واختلى الملك بها، فوجدها ملتاعة يعصف بها حزن، ويعتصرُها أسىً... وقد أطرقت بنظراتها إلى الأرض، ودموعُها تتحدّر على وجنتيها، كحبَّات درٍّ، فطيّب الملكُ خاطرها. فليس للملك عهد، بزوجاته، على كثرتهنّ، يقابلنه في موعد السّعادة، بوجوم حزين، ودمعة حرى، وقد وردن نعمة، وحططن على عيشٍ خصيلٍ (أي: ناعم طيب)، أين منه جنّاتُ النعيم!...
وشعر الملك، شعوراً خفياً، بأن زوجه هذه من صنف آخر، لاعهد له به، في من عرف من نساءٍ،.. وأحسّ بقلبه اضطراباً، ووجيباً، ولم يكن ليحسّ بشئ من ذلك طوال ما سلف من عمره...
ومدّ الملك يده إلى عروسه،.. فلم تصل إليها، بل تعلّقت يده في الهواء كقطعة من حشب، وكأنّها ليست من لحم ودم!.
أتُراها من الجنّيّات؟..
أم تُراها من السّاحرات العليمات؟..
فأخذتهُ الرهبة، وعقلت لسانه الدهشة، وحاول، جاهداً، تحريك يده فلم تتحرّك... إنها جامدة كالعود اليابس..
وخيّل اليه أنه أمام امرأة تحرُسُها السماء، وترعاها عنايتها..
فطلب إليها، متوسّلاً، أن تدعو إلهها، كي يعيد إليه يده، كما كانت،.. معاهداً إياها ألا يمسّها بعد ذلك، أبداً..
واستجابت سارة لتوسّل الملك، الذي، عادت إليه يده، جدّ طبيعية، كما كانت!..
ولّما حوال ثانية أن يمدّ إليها يداً، عادت يده متشنّجةً، وقد جمد فيها الدم، وتصلّبت فيها العروق، فهو لايستطيع لها تحريكاً..
ويعاوده اليقين بأنه أمام امرأةً لها قدسيّة وعصمة، ليستا لغيرها من نساء الارض جميعاً!.
وألحّ الملك من جديد، على سارة أن تدعو له إلهها، فتعود يده سالمة، مقسماً بآبائه الأكرمين، وآلهة مصر جميعاً ألاّ يقترب منها، وقد رأى الراهين والآيات!..
ومرة ثانية، تستجيب سارة للملك، وقد حلف لها بكل عظيم،.. فتعود إليه يده. ثم ينهض إلى النوم وقد اثّاقلت جفونه، فينطرح على سريره، متثائباً، ويغط ملك مصر في سبات عميقٍ!..
ويستيقظُ الملك في صباح اليوم التالي، فينظر إلى سارة، وقد نهضت من مخدعها، وهو شارد النظرات، ثم يحني لها رأسه بإجلال...
فلقد رأى الملك في منامه، رؤيا حق، وصدق، أن سارة ذات بعلٍ، وعلى الملك ألاّ يقربها، بل عليه أن يحوطها بالإكرام والإعظام!..
ويُسرعُ الملك باستدعاء إبراهيم، فيُكرمُه، ويعيد إليه زوجه، على عفاف وطُهرٍ،.. ويُكرمُ سارة، وقد عصمها الله، بأمةٍ (أي: عبدةٍ) سوداء، خادمة لها.
ويبقى إبراهيم في أرض مصر ماشاء الله أن يبقى، على دعةٍ، واطمئنان.. وكان يعمل بدأب، فكثُر رزقه، وتضاعفت مواشيه، واشتهر أمره بين القوم، وعلا ذكره..
ولكنّ، كل ذي نعمة محسود!..
فسرعان ما انقلب الناس على إبراهيم حسداً من عندهم، وبغياً، وأضمروا له السوء، فجفي، وشعر بالغربة بينهم، وبكرههم إيّاه فصمّم على مغادرتهم إلى أرض فلسطين، التي سبق له أن حلّ فيها ردحاً من الزمن، قصيراً.
وتهيّأ إبراهيم للرّحيل. فجمع قطعانه، والمال الوفير الذي اكتسبه، وسار بسارة، تصحبُها هاجر خادمتها الجديدة، ميمّماً وجهه شطر الشمال، صُعداً.. إلى أرض فلسطين!..
إبراهيم في فلسطين
حلّ إبراهيم في فلسطين، بين قومه، وقد آمن به، منهم، قليلٌ!. وكانت حياته مقسّمةً بين عمل في سبيل العيش والحياة، وبثّ الدعوة بين قومه، وإرشادهم، وانصراف إلى شؤون بيته وأهله،... فلكل حقّهُ من الاهتمام!..
وكانت زوجهُ سارة عاقراً، فلم يُرزق إبراهيم منها ولداً، يخلُفُه من بعده..
وأنِسَت سارةُ من زوجها رغبةً في ولدٍ يليه، ويحفظ ذكره، بعد تصرّم أجله (أي: انقضاء أيامه) أنها طبيعة الحياة، وسنّة الله في خلقه.
والتمع في ذهن سارة خاطر: فلم لاتزوّج إبراهيم من هاجر، خادمتها، وبذلك توفّر على نفسها عناءً قد تلاقيه من ضرّةٍ غريبةٍ، لاتعرف من أمرها شيئاً؟..
وفاتحت سارة إبراهيم بهذا الخاطر الطارئ، فرضيَ!..
وتمّ ذلك!..
وشاء الله أن تحمل هاجر، لتلد، فيما بعد، إسماعيل، بكر أبناء إبراهيم، وخليفته من بعده. وامتلأت حياة إبراهيم سعادة، وقد رزقه الله غلاماً ذا شأن!.
وارتفع شأن هاجر في المنزل، فهي زوج إبراهيم، وأمُّ إسماعيل..
وأنست سارة بالوليد الصغير، المُنمنم المحيّا، البهيّ الطّلعة، على سُمرةٍ داكنةٍ، بعض الأنس، ورضيت بعض الرضى، فمن يدري؟.. لعل إسماعيل يكون لها بمثابة الإبن، في مستقبل الأيام، وهي العقيم!.
ولكن انصراف إبراهيم إلى ابنه، وأمّه، عنها، أثار حفيظتها، وأشعل غيرتها. فمتى كانت الأمةُ كالحرّة؟.. ومتى كان الليل الداكن، كالنّهار السّاطع بالضياء؟ ولم تطق سارة مع هذه الأمة وطفلها، عيشاً!.. وقد اسودّت الدنيا في عينيها. والغيرةُ داءٌ عُضالٌ!..
واحتار إبراهيم في أمره: فليس بوسعة أن يغضب سارة، وليس بإمكانه أن يتخلّى عن هاجر وابنها.
وتصر سارة على إبعاد هاجر وابنها عن الأرض التي هي عليها... فليس لهاجر في هذه الدّيار، مكانٌ!..
وكأن الله تعالى أوحى إلى نبيّه إبراهيم: أن سِر بهاجر وابنها إلى أرض الحجاز!.. فسار!..
وديعة إبراهيم
الرّكب الصغير يتهادى في سيره في أرض فلسطين إلى أرض الحجاز!.
والأمةُ وطفلها في هودج، مع متاع يسيرٍ،.. والراحلة تُتلع (إي: تمد) بعُنُقها، فالدّرب طويل طويل!..
وإبراهيم على دابّته، وقد أضناها المسير، فهزلت، وضمُرت..
وتمضي الأيامن تتلوها الأيام، قاطعاً خلالها نبيُّ الله إبراهيم صحارى، وأرضاً مقفرةً، معرّجاً من نجع (موطن العشب) إلى نجعٍ، ينزل، حيثُ أضناه لغوب (أي: تعب) السّير والسُّرى (المشي ليلاً)..
والطفلُ في حضن أمّه، يتلوّى، وقد أدركه إرهاق مشئ الناقة، الوئيد..
ويحُطُّ "خليلُ الرحمن" إبراهيم، عصا ترحاله في صحراء بلقع،... وتنزل هاجر ومعها ابنُها، وشئٌ من زهيد المتاع، وضئيل الزّاد! ويُبادرها إبراهيم قائلاً:
- في هذه الأرض مستقرُّكُما، حتّى يأتي الله بأمره!.
وتتلفّت هاجر ذات اليمين وذات الشمال، كظبي أعفر مذعورٍ، فلا ترى إلاّ صحراء تتلوها صحراء، وقد خلت من كل أثر من آثار الحياة، فتصرُخَ، وقد ارتسمت على وجهها علائم اندهاش واستغرابٍ:
- أفي هذه الأرض ستدعُنا ياإبراهيمُ؟
- أجلُ، ياأم إسماعيلَ.
- وإلى من تكِلُنا في هذا المهمه القفر (الصحراء المجدبة)؟
- إلى الله تعالى...
- ولكنّه الموتُ. أتترُكُنا ها هنا لنهلك جوعاً وعطشاً، في حرّ الهجير، ومستعر الرّمضاء؟.
- إنهُ أمرُ الله، فاعتصمي بالصبر، واتّكلي على الله..
وتضم هاجر الوليد الرضيع، وقد علا صُراخهُ، إلى حضنها، ثم تقدّمه لأبيه، مستعطفة فلعلّ قلب الأب يرقُّ!..
ولكنّ إبراهيم أشاح بوجهه عنها، وهو يزدرد ريقه، وقد جفّ حلقُه...
ثم عاد واستقبلها بابتسامة الحاني الشّفوق، مطيّباً خاطرها، داعياً إياها إلى التوكّل على الله... فهو وليّ أمر عباده المسلمين إليه أمورهم، قائلاً لها:
- لن يُضيّعكُما الله في هذا المكان الموحش!.
ثم، يعتلي دابّته، منتهراً إيّاها، فتجري به سريعاً، ويُلاحقه صراخُ هاجر، وعيل الطفل، فلايدير إليهما وجهاً..
ولكنّ قلبه كان كالمرجل غليان عاطفةٍ، وحُزناً متّقداً...
وتوجّه إبراهيم بكلّ مافيه من إحساسٍ صادقٍ، يتفجّر من قلبٍ سليمٍ، إلى مولاه، هاديه، والآخذ بيده في كل موقف عصيب، رافعاً إليه يده، وصوته، وكأنّه يجهش باكياً: (ربّنا إني أسكنتُ من ذرّيتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرّم، ربّنا ليُقيموا الصّلاة، فاجعل أفئدةً من النّاس تهوي إليهم، وارزقهم من الثّمرات لعلّهم يشكرون).
إنها وديعةُ إبراهيم عند الله!. وهل كالله مستودع وثيق؟..
زمزم:
وتلاحق هاجر، بنظراتها الولهى، زوجها إبراهيم، على دابّته، تجتاز به القفار... وتظل كذلك، حتى أصبح يتراءى لها من بعيد، نقطة داكنةً على صفحة غبراء... ثم تختفي هذه النقطة شيئاً فشيئاً، وكأنّها تذوب!.
فتستسلم هاجر إلى الانتحاب بمرارةٍ، وتبكي سوء مصيرها، ومصير طفلها، وتندُبُ حظّهما التّعيس! فقد عصف بها يأسٌ مريرٌ قتّال!... ثم لاتلبث أن تُسلم أمرها لله!... فهكذا وصّاها إبراهيم.. فيالقساوة قلوب الرجال!. وتذكر ضُرّتها سارة، فتُدرك أنّ قلوب النساء أقسى!..
وتعود بها الذكريات إلى سابق حياتها في البلاط الملكيّ، العاطر الأرجاء، دائماً... الدّافق بالرزق