39 ـ باب حق الجار والوصية به
قال الله تعالى : ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) [النساء: 36] .
1/303 ـ وعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه )) متفق عليه (126) .
2/304 ـ وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا أبا ذر ، إذا طبخت مرقة ؛ فاكثر ماءها وتعاهد جيرانك )) رواه مسلم (127) .
وفي رواية له عن أبي ذر قال : إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني : (( إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءه ، ثم انظر أهل بيت من جيرانك ، فأصبهم منها بمعروفٍ )) (128) .
3/305 ـ وعن أبي هريرة رضي اله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن )) ! قيل : من يا رسول الله ؟ قال : (( الذي لا يأمن جاره بوائقه !)) متفق عليه (129) .
وفي رواية لمسلم : (( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه )) .
(( البوائق )) : الغوائل والشرور .
4/306 ـ وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها و لو فرسن شاةٍ )) متفق عليه .(130) .
5/307 ـ وعنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره )) ثم يقول أبو هريرة : مالي أراكم عنها معرضين ! والله لأرمين بها بين أكتافكم . متفق عليه (131) .
روي : (( خشبه )) بالإضافة والجمع ، وروي (( خشبةً )) بالتنوين على الإفراد . وقوله : مالي أراكم عنها معرضين : يعني عن هذه السنة .
الـشـرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ باب حق الجار والوصية به
الجار : هو الملاصق لك في بيتك والقريب من ذلك ، وقد وردت بعض الآثار بما يدل على أن الجار أربعون داراً كل جانب ، ولا شك أن الملاصق للبيت جار ، وأما ما وراء ذلك فإن صحت الأخبار بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فالحق ما جاءت به ، وإلا فإنه يرجع في ذلك إلى العرف ، فما عدّه الناس جواراًَ فهو جوار .
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى آية سورة النساء : ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ ) [النساء: 36] .
الجار ذي القربى : يعني الجار القريب .
والجار الجنب : يعني الجار البعيد الأجنبي منك .
قال أهل العلم : والجيران ثلاثة :
1 ـ جار قريب مسلم ؛ فله حق الجوار ، والقرابة ، والإسلام .
2 ـ وجار مسلم غريب قريب ؛ فله حق الجوار ، والإسلام .
3 ـ وجار كافر ؛ فله حق الجوار ، وإن كان قريباً فله حق القرابة أيضاً .
فهؤلاء الجيران لهم حقوق : حقوق واجبة ، وحقوق يجب تركها .
ثم ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ خمسة أحاديث ، عن ابن عمر ، وعن أبي ذر وعن أبي هريرة ، أما حديث ابن عمر ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه )) أي سينزل الوحي بتوريثه ، وليس المعنى أن جبريل يشرع توريثه ؛ لأن جبريل ليس له حق في ذلك ، لكن المعنى أنه سينزل الوحي الذي يأتي به جبريل بتوريث الجار ، وذلك من شدة إيصاء جبريل به النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما حديث أبي ذر ففيه أن على الإنسان إذا وسّع الله عليه برزق ، أن يصيب منه جاره بعض الشيء بالمعروف ، حيث قال صلى الله عليه وسلم : (( إذا طبخت مرقة فاكثر ماءها ، وتعاهد جيرانك )) ، أكثر ماءها يعني زدها في الماء لتكثر وتوزع على جيرانك منها ، والمرقة عادة تكون من اللحم أو من غيره مما يؤتدم به ، وهكذا أيضاً إذا كان عندك غير المرق ، أو شراب كفضل اللبن مثلاً، وما أشبهه ينبغي لك أن تعاهد جيرانك به ؛ لأن لهم حقاً عليك .
وأما أحاديث أبي هريرة ففيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم ثلاث مرات فقال : (( والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن )) قالوا : من يا رسول الله ؟ قال : (( من لا يأمن جاره بوائقه )) يعني غدره وخيانته وظلمه وعدوانه ، فالذي لا يأمن جاره من ذلك ليس بمؤمن ، وإذا كان يفعل ذلك ويوقعه فعلاً فهو أشد .
وفي هذا دليل على تحريم العدوان على الجار ؛ سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل ، أما بالقول فأن يسمع منه ما يزعجه ويقلقه ، كالذين يفتحون الراديو أو التلفزيون أو غيرهما مما يسمع فيزعج الجيران ، فإن هذا لا يحل له، حتى لو فتحه على كتاب الله وهو مما يزعج الجيران بصوته فإنه معتد عليهم ، ولا يحل له لك أن يفعل ذلك .
وأما بالفعل فيكون بإلقاء الكناسة حول بابه ، والتضييق عليه عند مداخل بابه ، أو بالدق ، أو ما أشبه ذلك مما يضره ، ومن هذا أيضاً إذا كان له نخلة أو شجرة حول جدار جاره فكان يسقيها حتى يؤذي جاره بهذا السقي ، فإن ذلك من بوائق الجار يحل له .
إذاً يحرم على الجار أن يؤذي جاره بأي شيء ، فإن فعل فإنه ليس بمؤمن ، والمعنى أنه ليس متصفاً بصفات المؤمنين في هذه المسألة التي خالف بها الحق .
وأما ما ذكره في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره )) يعني : إذا كان جارك يريد أن يسقف بيته ووضع الخشب على الجدار ، فإنه لا يحل منعه ؛ لأن وضع الخشب على الجدار لا يضر ، بل يزيده قوة ، ويمنع السيل منه ، ولا سيما فيما سبق حيث كان البناء من اللبن، فإن الخشب يمنع هطول المطر على الجدار فيحميه ، وهو أيضاً يشده ويقويه ، ففيه مصلحة للجار ، وفيه مصلحة للجدار ، فلا يحل للجار أن يمنع جاره من وضع الخشب على جداره ، وإن فعل ومنع ؛ فإنه يجبر على أن يوضع الخشب رغماً عن أتفه .
ولهذا قال أبو هريرة : مالي أراكم عنها معرضين ، والله لأرمين بها بين أكتافكم ، يعني من لم يمكن من وضع الخشب على جداره وضعناه على متن جسده بين أكتافه ، وقال هذا رضي الله عنه حينما كان أميراً على المؤمنين على المدينة في زمن مروان بن الحكم .
وهذا نظير ما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في المشاجرة التي جرت بين محمد بن مسلمة وجاره ، حيث أراد أن يجري الماء إلى بستانه وحال بينه وبينه بستان جاره ، فمنعه الجار من أن يجري من على أرضه ، فترافعا إلى عمر ، فقال : والله لئن منعته لأجرينه على بطنك ، وألزمه أن يجري الماء ؛ لأن إجراء ليس فيه ضرر ؛لأن كل بستان زرع فإذا جرى الماء الساقي ؛ انتفعت الأرض وانتفع ما حول الساقي من الزرع وانتفع الجار ، نعم لو كان الجار يريد أن يبنيها بناءً وقال لا أريد أن يجري الماء على الأرض فله المنع ، أما إذا كان يريد أن يزرعها فالماء لا يزيده إلا خيراً .
وبناءً على هذا فتجب مراعاة حقوق الجيران ؛ فيجب الإحسان إليهم بقدر الإمكان ، ويحرم الاعتداء عليهم بأي عدوان ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره )) (132) .