المدح
د. عمر عبدالكافي
بتصرف من حلقات آفات اللسان
وهذه آفة لا يخلو لسان إنسان منها، إلا من رحم ربي، لأنها آفة قد تكون عند البعض طيبة، وليس فيها قبيح، لأن بعض الناس يراها ظاهرياً صفة جميلة، ألا وهي صفة المدح، المدح الذي ينهى الإنسان لسانه عنها، المدح المنهي عنه.
لأن هناك مدحاً نحن مأمورون بفعله وإتيانه، ولكن في إطار حدده الشرع، وهناك مدح منهي عنه.المدح المنهي عنه له محاذير، لماذا نهى الشرع الحنيف عن هذا النوع من المدح؟ .......
آفات المدح:
لأن المدح فيه آفات ست، يعني ست آفات موجودة في المدح هذا الذي ينهى الشرع عنه. أربع آفات في المادح، وآفتان في الممدوح، فالمجموع ست آفات تدخل في قضية المدح المنهي عنه (1).
الآفة الأولى في المادح: الإفراط في المدح، فإذا أفرط المادح في مدحه صار كاذباً؛ لأن الأمور لها قدر وحجم، وهذا الإنسان يطلق لسانه في مدح الآخرين، فبذلك ينتهي به الأمر للأسف إلى أن يكون كاذباً فيما يقول.قال أحد الصالحين: من مدح إماماً، أو أحداً بما ليس فيه على رؤوس الأشهاد، بعثه الله يوم القيامة يتعثر بلسانه، هذه كارثة كبيرة (2).
الآفة الثانية: في المدح المنهي عنه فيما يخص المادح: أن المادح قد يدخل في إطار الرياء؛ لأنه عندما يمدح يظهر الحب، وربما يكون هو لا يضمر للآخر إلا ما لا ينم عن الحب، فبالتالي يصبح المادح مرائياً، ويصبح منافقاً، والعياذ بالله رب العالمين. انظر إلى المدح المنهي عنه يدخلنا في مسائل خطيرة وبالذات إذا كان الذي يمتدح يعني له مكانة، وجاهة أو مكانة اجتماعية، أو يتبوأ مقعداً معيناً في المؤسسة أو في المصلحة أو في الدولة، عندئذ، للأسف الشديد، يدخل هنا الرياء ويدخل النفاق وهذه مصيبة كبيرة، والمؤمن نقيّ السريرة؛ لا يعرف لا الرياء ولا النفاق.
الآفة الثالثة بالنسبة للذي يمدح: أنه ربما يقول الأشياء التي لا تتحقق، ولا سبيل للإنسان أن يطلع عليها، لأن الرجل الذي مدح إنساناً عند النبي صلى الله عليه وسلم، قال له عليه الصلاة والسلام: "ويلك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك" مراراً ثم قال: "من كان منكم مادحاً أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه" (3). فالشرع حدد المسألة، وقال: إن كان لابد للإنسان أن يمدح، فليقل: أحسب فلاناً كذا، لا أزكيه على الله، لا أزكي على الله أحداً، حسيبه الله، يعني: إن كان يرى أنه أهل للمدح.
الآفة الرابعة في مسألة المادح: أنه يدخل بما يقول الفرحة على الممدوح، وقد يكون هذا الذي يُمدح ظالم أو فاسق، وهنا تقع المشكلة.وقال الحسن البصري، رحمه الله: من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يعصى الله تعالى في أرضه (4). فهنا تكمن المشكلة؛ لأن الظالم الفاسق يجب أن يُذم حتى يغتم، ولا يمدح ليفرح؛ لأن إذا مدح الظالم والفاسق فكيف يعرف أنه ظالم؟! وكيف يعرف أنه صار فاسقاً؟! هنا يجب أن يتقي المسلم ربه.
أما الآفتان اللتان تضر كلاهما بالممدوح:
الأولى: أن الممدوح إذا مدح؛ يحدث فيه الكبر والإعجاب، وإذا أصيب الإنسان بالكبر والإعجاب، هلك وضاع. ومن الخطورة بمكان: أن أمدح إنساناً فيظن أنه على خير وعلى صلاح وعلى تقوى، وأنه كما يقول هذا المادح، وربما هو ينافقه، ربما هو يرائيه، ربما لأنه يعمل عنده، وربما يأخذ راتبه منه، ربما هو الذي له يد عليه في كونه عينه في هذه الوظيفة أو في هذا المكان، أو أنه يرجو منه خيراً ونوالاً. كما كان الشعراء يمتدحون بعض الناس بما ليس فيهم، ويأخذوا على هذا أموالاً طائلة. وذَمَّهم رب العباد سبحانه وتعالى في كتابه قال: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ) (الشعراء 224-226) واستثنى رب العباد منهم المؤمنين الصالحين الذين يعملون الصالحات.
الآفة الثانية: إذا مُدح إنسان بالخير تراه يفرح ثم تفتر به العبادة ويرضى عن نفسه، ويدخل العجب إلى نفسه بعد ذلك فيقل تشمره إلى العبادة، ويرى أنه طالما انطلقت الألسنة بالثناء عليه، فقد وصل إلى ما لم يصل إليه آخر، فبالتالي يتكاسل ربما عن العبادة، وهذه مشكلة, بل انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال عن نفسه: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" (5). أي: لست أقول هذا تفاخراً، كما يقصد الناس بالثناء على أنفسهم؛ لأن افتخاره صلى الله عليه وسلم كان بالله وبالقرب من الله، لا بولد آدم وتقدمه عليهم أبدا.وكارثة الممدوح أنه يكون قريباً من آفة العجب، وقريباً أيضا من آفة الفتور عن العبادة، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قال لنا: "أحثوا التراب في وجوه المداحين" (6). وكان إذا مدح أبو بكر يقول: اللهم اغفر لي مالا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيرا مما يظنون" (7).
المدح مصيبة وفتنة للمادح وفتنة للممدوح، فتنة للمادح يدخله، كما قلنا، إما في كذب أو في رياء أو نفاق، أو فيما لا يجب أن يدخل فيه، أو يكون مبالغاً فيما يقول، والهوى يدخل هنا، والشيطان يدخل لكي يقول الإنسان في غيره ما ينكره قلبه، هنا تكمن آفات شتى، طبعاً بلا شك، عندما يعيش الممدوح طوال حياته لا يسمع إلا مدحاً، قال إبراهيم بن أدهم: رحم الله امرءً أهدى إلينا عيوبنا.انظر إلى الناس إذا جادل أحدٌ أحداً فمدح طرف دون الآخر، فانظر إلى التيه والخيلاء الذي يشعر بها من مدح، وانظر إلى الحسرة والأسى التي دخلت على قلب من لم يمتدح، كما قال تعالى: ( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:188).
إذا الإنسان لا يجب أن ينسب إلى نفسه ما لم يفعل، ولا ينسب إلى نفسه ما لم يقم به.فأخوة الإسلام؛ حاذروا من المدح المنهي عنه؛ أن أطلق ألفاظي في توسيع أو في تكبير أفعال الآخرين أمامهم، وبين أعينهم وفي وجوههم حتى أنال حظوة عندهم، وحتى يرى هذا الممدوح نفسه أنه فوق الناس وهنا كارثة كبيرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: "قطعت عنق أخيك" ، يعني إذا بالذي صنعته هذا أثرت فيه تأثيرا سلبياً. ليس معنى هذا أن الإنسان لا يمتدح زوجته في البيت، أو ابنه إذا تفوق، أو زوجته إذا قدمت له طعاماً شهياً، أو خدمة معينة، أو أمراً معيناً؛ لا بل يجب هنا، هذه كلمات لترقيق الحياة في البيوت: جزاك الله خيرًا، بورك لنا فيك، قواك الله وأعانك علينا، رزقك الله الصحة حتى تستطيع أن تواصلي، هكذا يقول الزوج لزوجته، وتقول الزوجة: بورك لنا فيك.الدعاء والثناء هذا في البيوت ليس من باب هذا المدح المنهي عنه، خشية أن يظن الناس أنه يجب أن لا يقول إنسان كلمةً طيبةً في وجوه الناس، بل نشكر الناس. أي إنسان يفعل فينا خيرًا نقول له: جزاك الله خيرًا، ومن قال لأخيه: جزاك الله خيرًا فقد أجزل له العطاء.
اللهم لا تجعلنا من المادحين مدحا منهياً عنه يا رب العالمين، وإنما اجعلنا من الشاكرين لك ولمن جعلتهم سببا في جريان نعمك علينا إنك نعم المولى ونعم القدير.
1 )- انظر :"إحياء علوم الدين"(3/219 ).
2 )- وهذا المعنى خرج على محمل التحذير والزجر، وإلا مثله لا يعرف إلا بالوحي.
3 )- أخرجه البخاري في"صحيحه" (2/946) رقم (2519) ، ومسلم في"صحيحه" (4/2296) رقم (3000) من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث، رضي الله عنه.
4 )- "شعب الإيمان" (7/53)، ونسبها أبو نعيم في"الحلية" (7/46) لسفيان الثوري، وفي (8/240) نسبها ليوسف بن أسباط، رحم الله الجميع.
5 )- أخرجه مسلم في"صحيحه" (4/1782) رقم (2278) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
6 )- أخرجه مسلم في"صحيحه" (4/2297) رقم (3002) من حديث عثمان بن عفان، رضي الله عنه. الذين يمدحون الناس، لخوفه على الأمة من هذا المعنى..
7 )- انظر :"الزهد" لابن المبارك (1/14) ، و"صفة المنافق" للفريابي (صــ75) فقد عزياه إلى ابن عمر مولى عفرة، وراجع "فتح الباري" (10/478).
آخر تحديث ( الثلاثاء, 12 يناير 2010 20:56