هي مكية، وآيها ثلاثون، نزلت بعد سورة الطور.
ومناسبتها لما قبلها - أنه لما ضرب مثلا للكفار بتينك المرأتين اللتين قدر لهما الشقاء وإن كانتا تحت عبدين صالحين، ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم وقد كتب لهما السعادة وإن كان أكثر قومهما كفارا - افتتح هذه السورة بما يدل على إحاطة علمه عز وجل وقهره وتصرفه في ملكه على ما سبق به قضاؤه.
[عدل][سورة الملك (67): الآيات 1 الى 5]
بسم الله الرحمن الرحيم
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) ولَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)
شرح المفردات
البركة: الزيادة حسية كانت أو عقلية، خلق: أي قدّر، ليبلوكم: أي ليختبركم والمراد ليعاملكم معاملة المختبر لأعمالكم، أحسن عملا: أي أخلصه لله، العزيز: أي الغالب الذي لا يعجزه عقاب من أساء، الغفور: أي كثير المغفرة والستر لذنوب عباده، طباقا: أي طبقة بعد طبقة، تفاوت: أي اختلاف وعدم تناسب، والفطور: الشقوق، واحدها فطر، يقال فطره فانفطر، كرتين: أي رجعتين أخريين في ارتياد الخلل، والمراد بذلك التكرير والتكثير: أي رجعة بعد رجعة، ينقلب: أي يرجع، خاسئا: أي صاغرا ذليلا مبعدا لم ير ما يهوى من الخلل، حسير: أي كليل منقطع لم يدرك ما طلب، والحاسر: المعيا لنفاد قواه، والمصابيح: واحدها مصباح وهو السراج والمراد بها الكواكب، والرجوم: واحدها رجم (بِالْفَتْحِ) وهو ما يرجم ويرمى به، والشياطين: هم شياطين الإنس والجن، وأعتدنا: أي هيأنا، عذاب السعير: أي عذاب النار المسعّرة الموقدة.
المعنى الجملي
مجّد الله نفسه وأخبر أن بيده الملك والتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، لقهره وحكمته وعدله، وهو القدير على كل شيء ثم أخبر بأنه قدّر الموت والحياة ليبلوكم فينظر من منكم أخلص له عملا، وهو ذو العزة الغالب على أمره، الغفور لمن أذنب ثم تاب وأقلع عنه، ثم أردف ذلك بأنه خلق سبع سموات بعضها فوق بعض لا خلل فيها ولا عيب، فانظر أيها الرائي أترى فيها شقا أو عيبا؟ ثم أعد النظر وحدّق بالبصر، لتستيقن تمام تناسبها واستواء خلقها، وقد زيّنا أقرب السموات إليكم بكواكب يهتدى بها الساري، ويعلم بها عدد السنين والحساب، وعليها تتوقف حياة الحيوان والنبات، وهي أيضا سبب الأرزاق المهيجة لشهوات شياطين الإنس والجن، وهؤلاء قد استمدوا شيطنتهم من مظاهر الطبيعة بوساطة الحرارة والضوء من الكواكب، وبذا أعد لهم عذاب السعير جزاء ما اقترفوا في حياتهم الدنيا.
الإيضاح
(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي تعالى ربنا الذي بيده ملك الدنيا والآخرة، فهو يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويرفع أقواما ويخفض آخرين، وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة لا يمنعه مانع، ولا يحول بينه وبين ما يريد عجز، فله التصرف التام في الموجودات على مقتضى إرادته ومشيئته بلا منازع ولا مدافع.
والخلاصة - تعاظم عن صفات المخلوقين من بيده الملك والتصرف في كل شيء، وهو قدير يتصرف في ملكه كيف يريد من إنعام وانتقام، ورفع ووضع، وإعطاء ومنع.
ثم شرع يفصل بعض أحكام الملك وآثار القدرة، ويبين ابتناءهما على الحكم والمصالح، وأنهما يستتبعان غايات جليلة فقال:
(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) أي الذي قدر الموت وقدر الحياة وجعل لكل منهما مواقيت لا يعلمها إلا هو.
(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي ليعاملكم معاملة من يختبر حاله، وينظر أيكم أخلص في عمله، فيجازيكم بذلك بحسب تفاوت مراتبكم وأعمالكم، سواء أكانت أعمال القلب أم كانت أعمال الجوارح.
وقد روى في تفسير الآية عن رسول الله أنه قال: « أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعته عز وجل » يعني أيكم أتم فهما لما يصدر عن حضرة القدس، وأكمل ضبطا لما يؤخذ من خطابه، وأيكم أبعد عن ملابسة الكبائر، وأسرع في إجابة داعي الله.
وفيه ترغيب في الطاعات وزجر عن المعاصي كما لا يخفى على ذوي الألباب.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) أي وهو القوى الشديد الانتقام ممن عصاه وخالف أمره، الغفور لذنوب من أناب إليه وأقلع عنها.
وقد قرن سبحانه الترهيب بالترغيب في مواضع كثيرة من كتابه كقوله تعالى: « نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ».
وإثبات العزة والغفران له يتضمن كونه قادرا على كل المقدورات، عالما بكل المعلومات، ليجازى المحسن والمسيء بالثواب والعقاب، ويعلم المطيع من العاصي، فلا يقع خطأ في إيصال الحق إلى من يستحقه، ثوابا كان أو عقابا.
ثم ذكر دلائل قدرته فقال:
(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا) أي هو الذي أوجد سبع سموات بعضها فوق بعض في جوّ الهواء بلا عماد، ولا رابط يربطها مع اختصاص كل منها بحيز معين ونظم ثابتة لا تتغير بل بنظام الجاذبية البديع بين أجرام الأرضين والسموات، كما جاء في قوله: « اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ».
ثم ذكر دلائل العلم فقال:
(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) أي لا ترى أيها الرائي تفاوتا وعدم تناسب، فلا يتجاوز شيء منه الحد الذي يجب له زيادة أو نقصا على نحو ما قيل:
تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى بهنّ اختلافا بل أتين على قدر
فإن كنت في ريب من هذا فارجع البصر حتى تتضح لك الحال، ولا يبقى لك شبهة في تحقق ذلك التناسب والسلامة من الاختلاف والشقوق بينها.
وإنما قال: (فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) دون أن يقول: (فيها) تعظيما لخلقهنّ، وتنبيها إلى سبب سلامتهنّ من التفاوت بأنهنّ من خلق الرحمن، وأنه خلقهنّ بباهر قدرته وواسع رحمته تفضلا منه وإحسانا، وأن هذه الرحمة عامة في هذه العوالم جميعا.
ثم أمره بتكرير البصر في خلق الرحمن على سبيل التصفح والتتبع، هل يجد فيه عيبا وخللا فقال:
(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) أي إنك إذا كررت النظر لم يرجع إليك البصر بما طلبته من وجود الخلل والعيب، بل يرجع إليك صاغرا ذليلا لم ير ما يهوى منهما، حتى كأنه طرد وهو كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة.
والمراد بقوله « كرتين » التكثير كقوله:
لو عدّ قبر وقبر كان أكرمهم بيتا وأبعدهم من منزل الذّام
وبعد أن بين خلوّ السموات من العيب ذكر أنها الغاية في الحسن والبهاء فقال:
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي ولقد زينا السماء القربى من الأرض وهي التي يراها الناس بكواكب مضيئة بالليل كما يزيّن الناس منازلهم ومساجدهم بالسّرج، ولكن أنّى لسرج الدنيا أن تكون كسرج الله؟
والخلاصة - أن نظام السموات لا خلل فيه، بل هو أعظم من ذلك، فقد زينت سماؤه القريبة منا بمصابيح، هي بهجة للناظرين، وعبرة للمعتبرين.
(وَجَعَلْناها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ) أي وهذه الكواكب لا تقف عند حد الزينة بل بضوئها يكون ما في الأرض: من رزق وحياة وموت، بحسب الناموس الذي سنناه، والقدر الذي أمضيناه، ويكون في العالم الإنساني وعالم الجن نفوس تتقاذفها الأهواء، وتتجاذبها اللذات والشهوات التي تنجم من العناصر المتفاعلة بسبب الأضواء المشعّة النازلة من عالم الكواكب المشرقة في السماء.
وقصارى القول - إن هذه الكواكب كما هي زينة الدنيا، وأسباب لرزق ذوي الصلاح من الأنبياء والعلماء والحكماء، هي أيضا سبب لتكوّن الأرزاق المهيجة لشهوات شياطين الإنس والجن فهذا العالم قد اختلط فيه الضر بالنفع، وأعطى لكلّ ما استعدّ له فالنفوس الفاضلة، والنفوس الشريرة، استمدت من هذه المادة المسخّرة المقهورة، فصارت سببا لثواب النفوس الطيبة، وعذاب النفوس الخبيثة، وصار لهم فيها رجوم وظنون، إذ هم قد استمدوا شيطنتهم من مظاهر الطبيعة الناشئة من الحرارة والضوء.
ويرى بعض المفسرين أن المراد أن المصابيح التي زيّن الله بها السماء الدنيا لا تزول عن مكانها ولا يرجم بها، بل ينفصل من الكواكب شهاب يقتل الجني أو يخبله.
قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوم للشياطين، وعلامات يهتدى بها في البر والبحر، فمن تكلم فيها بغير ذلك فقد تكلم فيما لا يعلم، وتعدى وظلم.
(وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) أي وهيأنا لهؤلاء الشياطين في الآخرة عذاب النار الموقدة كفاء ما اكتسبوا من اللذات، وانجذبوا إليه من الشهوات، وغفلوا عن جمال هذه العوالم التي لم يعرفوا منها إلا شهواتهم، أما عقولهم فقد احتجبت عنها.
والخلاصة - إن السماء قد أضاءت على البر والفاجر، فالفجار حصروا أنفسهم في شهواتهم، فلم ينظروا إليها نظر فكر وعقل، بل نظروا إليها باعتبار أن بها تقوم حياتهم، وهؤلاء أعتدنا لهم عذاب السعير في الآخرة، لأن هذا يشاكل حالهم في الدنيا، إذ هم فيها قد حبسوا أنفسهم في نيران البخل والحقد والطمع، فتحولت إلى نار مبصرة يرون عذابها في الآخرة.
[عدل][سورة الملك (67): الآيات 6 الى 11]
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (
قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
شرح المفردات
ألقوا فيها: أي طرحوا فيها كما يطرح الحطب في النار، والشهيق: تنفس كتنفس المتغيظ قاله المبرّد، تفور: أي تغلى بهم كغلى المرجل قاله ابن عباس، وقال الليث: كل شيء جاش فقد فار كفور القدر والماء من العين، تميز: أي ينفصل بعضها من بعض، والغيظ: شدة الغضب قاله الراغب، فوج: أي جماعة، خزنتها: واحدها خازن، وهم مالك وأعوانه، نذير: أي رسول ينذركم بأس الله وشديد عقابه، إن أنتم: أي ما أنتم، ضلال كبير: أي ضلال بعيد عن الحق والصواب، فسحقا لهم: أي فبعدا لهم من رحمة ربهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن شياطين الإنس والجن قد أعدّ لهم عذاب السعير، أردف ذلك ببيان أن هذه النار قد أعدها لكل جاحد بوحدانيته، مكذب برسله، منكر للبعث واليوم الآخر، ثم وصف هذه النار بأوصاف تشيب من هولها الولدان، وتصطك لسماعها الأسنان، منها:
(1) أنه يسمع لها شهيق حين يلقى الكافرون فيها.
(2) أنها تفوز بهم كما يفور ما في المرجل حين يغلى.
(3) أنها تكون شديدة الغيظ والحنق على من فيها.
(4) أن خزنتها يسألون داخليها: ألم تأتكم الرسل فتبعدكم عن هذا العذاب؟
(5) أن أهلها يعترفون بأن الله ما عذبهم ظلما، بل قد جاءهم الرسل فكذبوهم وقالوا لهم: أنتم في ضلال بعيد.
(6) دعاء الملائكة عليهم بالبعد من رحمة الله وألطافه، وكرمه وإحسانه.
الإيضاح
(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي قد سبق قضاؤنا، وجرت سنتنا أن من أشرك بنا، وكذب رسلنا، فقد استحق عذاب جهنم، وبئس المآل والمنقلب.
ثم ذكر فظائع أحوال هذه النار فقال:
(إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ) أي إذا طرح المجرمون فيها سمعوا لها صياحا وصوتا كصوت المتغيظ من شدة الغضب، وهي تغلى بهم كغلى المرجل بما فيه:
(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) يقال فلان يتميز غيظا، ويتعصف غيظا وغضبا فطارت منه شعلة في الأرض وشعلة في السماء، إذا وصفوه بالإفراط في الغضب، من قبل أن الغضب إنما يحدث حين غليان دم القلب، والدم حين الغليان يأخذ حجما أكبر من حجمه، فتتمدد الأوعية الدموية في البدن، وكلما كان الغضب أشد كان تمددها أكثر حتى تكاد تتقطع وينفصل بعضها من بعض.
ثم بين سبحانه عدله في خلقه وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة وإرسال الرسول إليه فقال:
(كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟) أي كلما طرح في جهنم جماعة من الكفار سألهم مالك وأعوانه من الزبانية سؤال تقريع وتوبيخ: هل أتتكم رسل من ربكم تنذركم شديد بأسه، وعظيم عقابه لمن عصاه وخالف أمره.
ونحو الآية قوله تعالى: « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ».
حينئذ يجيبهم هؤلاء مع التحسر على ما فات والندم على ما كان.
(قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) أي بلى جاءنا الرسول وأنذرنا فكذبناه وقلنا له: إن الله لم يوح إليك بشىء ولم يبعثك رسولا، وما أنت إلا بشر مثلنا، فما أنت فيما تدّعى إلا مجانف للحق، بعيد عن جادّة الصدق.
ونحو الآية قوله تعالى: « حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ ».
ثم عادوا على أنفسهم بالملامة، وندموا حيث لا ينفع الندم فقالوا:
(وَقالُوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي وقالوا: لو كانت لنا عقول ننتفع بها، أو آذان تسمع ما أنزل الله من الحق، ما كنا على ما نحن عليه من الكفر بالله، والاغترار باللذات التي كنا منهمكين بها في دنيانا، فبؤنا بسخط ربنا وغضبه، وحلّ بنا عقابه الأليم.
وقد نفوا عن أنفسهم السماع والعقل، تنزيلا لما عندهم منهما منزلة العدم، حين لم ينتفعوا بهما.
وقصارى ما سلف - إنهم قالوا: لو كنا سمعنا كلام النذير وقبلناه، اعتمادا على ما لاح من صدقه، وفكرنا فيه تفكير المستبصر، وعملنا به ما كنا في زمرة المعذّبين.
ولكن هيهات هيهات، فلا يجدى الاعتراف بالذنب، ولا يفيد الندم، فقد فات أوانه، وسبق ما حمّ به القضاء.
صاح هل ريت أو سمعت براع ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب
ومن ثم أحل بهم سبحانه نقمته فقال:
(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) أي فاعترفوا بما كان منهم من تكذيب الرسل، وأنّى يفيدهم ذلك؟ فبعدا لهم من رحمتى، جحدوا أو اعترفوا، فهو ليس بمغن عنهم شيئا، فقد وقعت الواقعة، وحل بهم من بأسى ما ليس له من دافع.
روى أحمد عن أبي البحتري الطائي قال: أخبرني من سمعه من رسول الله أنه قال: « لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم ».
وجاء في حديث آخر: « لا يدخل أحد النار إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة ».
[عدل][سورة الملك (67): الآيات 12 الى 15]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
شرح المفردات
بالغيب: أي غائبين عن أعين الناس، بذات الصدور: أي بما في النفوس، واللطيف: هو العالم بالأشياء التي يخفى علمها على العالمين، ومن ثم يقال: إن لطف الله بعباده عجيب، ويراد به دقائق تدبيره لهم، الخبير: أي بظواهر الأشياء وبواطنها، ذلولا: أي سهلة منقادة يسهل عليكم السير فيها والانتفاع بها وفيما فيها، والمناكب: واحدها منكب، وهو مجتمع ما بين العضد والكتف، والمراد طرقها وفجاجها، النشور: أي المرجع بعد البعث.
المعنى الجملي
بعد أن أوعد الكفار بما أوعد، وبالغ في ترهيبهم بما بالغ - وعد المؤمنين بالمغفرة والأجر الكريم، ثم عاد إلى تهديد الكافرين بأنه عليم بما يصدر منهم في السر والعلن، وأقام الدليل على ذلك بأنه هو الخالق، فلا يخفى عليه شيء من أمرهم، بل يصل علمه إلى ظواهر أمورهم وبواطنها، ثم عدد نعماءه عليهم، فذكر أنه عبّد لهم الأرض وذللها لهم، وهيأ لهم فيها منافع من زروع وثمار ومعادن، فليتمتعوا بما أوتوا ثم إلى ربهم مرجعهم، وإليه بعثهم ونشورهم.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي إن الذين يخافون مقام ربهم فيما بينهم وبينه إذا كانوا غائبين عن أعين الناس، فيكفون أنفسهم عن المعاصي، ويقومون بطاعته حيث لا يراهم إلا هو، مراقبين له في السر والعلن، واضعين نصب أعينهم ما جاء في الحديث: « اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » يكفر عنهم ما ألمّوا به من الذنوب والآثام، ويحزيهم جزيل الثواب، ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار كفاء ما أسلفوا في الأيام الخالية.
وقد ورد في الحديث: « سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله - وذكر منهم: ورجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجلا تصديق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ».
ثم نبه إلى أنه مطلع على السرائر فقال:
(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إن عملكم وقولكم على أي سبيل وجد فالله عليم به، فدوموا أيها الخاشعون على خشيتكم، وأنيبوا أيها المفترون إلى ربكم، وكونوا على حذر من أمركم.
روي عن ابن عباس أنه قال: « كان المشركون ينالون من النبي فيوحى إليه بما قالوا فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كيلا يسمع ربّ محمد فنزلت الآية ».
وقدم السر على الجهر للايذان بافتضاح أمرهم ووقوع ما يحذرون على كل حال أسروا أو جهروا، ولأن مرتبة السر مقدمة على مرتبة الجهر فما من شيء يجهر به إلا وهو أو مبادئه مضمر في النفس.
وقوله « إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ » كالعلة والسبب لما قبله.
والخلاصة - إنه تعالى محيط بمضمرات النفوس وأسرارها الخفية المستكنة في الصدور، فكيف لا يعلم ما تسرون وما تجهرون به؟.
ثم نصب الأدلة على إحاطة علمه بجميع الأشياء فقال:
(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أي كيف لا يعلم السر والجهر من أوجد بحكمته، وواسع علمه، وعظيم قدرته، جميع الأشياء وهو النافذ علمه إلى ما ظهر منها وما بطن.
وكأنه سبحانه يقول: ألا يعلم سركم وجهركم، من يعلم الدقائق والخفايا، جملها وتفاصيلها؟.
ثم نبه إلى نعمه على عباده فقال:
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أي إن ربكم هو الذي سخر لكم الأرض وذللها لكم، فجعلها قارّة ساكنة، لا تميد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال، وأوجد فيها من العيون، لسقيكم وسقى أنعامكم وزروعكم وثماركم، وسلك فيها السبل، فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أرجائها، لأنواع المكاسب والتجارات، وكلوا مما أوجده لكم فيها بفضله من واسع الأرزاق - والسعي في الأرزاق لا ينافى التوكل على الله.
روى أحمد عن عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله يقول: « لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير. تغدو خماصا، وتروح بطانا »
فأثبت لها غدوّا ورواحا لطلب الرزق مع توكلها على الله عز وجل وهو المسخّر الميسر المسبّب.
وأخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرّة قال: « مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوم فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون، قال: بل أنتم المتأكلون، إنما المتوكل رجل ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على الله عز وجل ».
وجاء في الأثر: « إن الله يحب العبد المؤمن المحترف ».
وفي الآية إيماء إلى ندب التجارة والتكسب بجميع ضروبه، وفيها تهديد للكافرين كأنه قال لهم: إني عالم بسركم وجهركم، فاحترسوا من عقابي، فهذه الأرض التي تمشون في مناكبها، أنا الذي ذللتها لكم، وجعلتها سببا لنفعكم، وإن شئت خسفتها بكم، وأنزلت عليها ألوانا من المحن والبلاء.
(وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أي وإليه المرجع يوم القيامة، فينبغي أن تعلموا أن مكثكم في الأرض، وأكلكم مما رزقكم الله فيها، مكث من يعلم أن مرجعه إلى الله، ويستيقن أن مصيره إليه، فاحذروا الكفر والمعاصي في السر والعلن.
[عدل][سورة الملك (67): الآيات 16 الى 19]
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
شرح المفردات
الأمن: ضد الخوف، من في السماء: هو ربكم الأعلى، وخسف الله به الأرض غيّبه فيها، ومنه قوله: « فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ » وتمور: أي تهتز وتضطرب حاصبا: أي ريحا شديدة فيها حصباء تهلككم، نذير: أي إنذاري وتخويفي، نكير: أي إنكارى عليهم بإنزال العذاب بهم، صافّات: أي باسطات أجنحتهن في الجوّ حين طيرانها تارة، ويقبضن: أي ويضممنها تارة أخرى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما أعده للكافرين من نار تلظى، ووصف هذه النار بما تشيب من هوله الولدان - أردف ذلك بترهيبهم وتخويفهم بأنهم لا يأمنون أن يحل بهم في الدنيا مثل ما حل بالمكذبين بالرسل من قبلهم: من خسف عاجل تمور به الأرض مورا، أو ريح حاصب تهلك الحرث والنسل، ولا تبقى منهم ديّارا ولا نافخ نار ثم ضرب لهم المثل بما حل بالأمم قبلهم من ضروب المحن والبلاء، فقد أهلكت ثمود بصاعقة لم تبق ولم تذر، وأهلكت عاد بالريح الصرصر العاتية التي سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما - متتابعة - وأهلك فرعون وقومه بالغرق في بحر القلزم (البحر الأحمر) ثم لفت أنظارهم إلى باهر قدرته، وعظيم منّته على عباده، فطلب منهم
أن يروا الطير وهي تبسط أجنحتها في الجو تارة، وتضمها أخرى بتسخير الله وتعليمه ما هي في حاجة إليه.
الإيضاح
(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أيء أمنتم أن يخسف ربكم بكم الأرض كما خسفها بقارون، فإذا هي تتحرك بكم حين الخسف، وتبتلعكم وتمور فوقكم جيئة وذهابا.
ثم انتقل من الوعيد بهذا إلى الوعيد بوجه آخر فقال:
(أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي بل أمنتم أن يرسل عليكم ريحا فيها حصباء (حجارة صغار) كما فعل بقوم لوط، وحينئذ تعلمون كيف يكون عقابي إذا شاهدتموه، ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ.
والخلاصة - كيف تأمنون من في السماء أن يصب عليكم العذاب من فوقكم أو من تحت أرجلكم، وقد ذلل لكم الأرض، وزين لكم السماء بمصابيح، فإذا لم تشكروا النعم، فأنتم حريّون بأن يرسل عليكم النقم.
ونحو الآية قوله تعالى: « قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ » وقوله: « أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ».
ثم لفت أنظارهم إلى ما حل بالأمم قبلهم، لعله يكون فيه مزدجر لهم فقال:
(وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي ولقد كذب من قبلهم من الأمم السالفة والقرون الغابرة من أرسلناهم من رسلنا فحاق بهم من سوء العذاب ما لا مردّ له، وحل بهم من البأس ما لم يجدوا له دافعا على شدة هو له وعظيم فظاعته.
والخلاصة - إن الكفار قبلهم شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، ثم ذكر الدلائل على قدرته على إيصال أنواع العذاب بهم فقال:
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) أي أغفلوا عن قدرتنا ولم ينظروا إلى الطير فوقهم وهي باسطات أجنحتهن في الجو حين طيرانها تارة، وقابضات لها أخرى، وما يمسكهن في الجو حين الصف والقبض على خلاف مقتضى طبيعة الأجسام الثقيلة من النزول إلى الأرض والانجذاب إليها إلا واسع رحمة من برأهن على أشكال وخصائص هو العليم بها، وألهمهن حركات تساعد على الجري في الهواء المسافات البعيدة لتحصيل أقواتهن، والبحث عن أرزاقهن؟.
ثم بين علة هذا فقال:
(إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) أي إنه سبحانه عليم بدقيق الأشياء وجليلها، فيعلم كيف يبدع خلقها على السنن التي هو عليم بفائدتها لعباده.
والخلاصة - إنكم رأيتم بعض العجائب التي أبرزناها، والحكم التي أظهرناها فهل أنتم آمنون أن ندبر بحكمتنا عذابا نصبّه عليكم صبّا، ولا معقّب لحكمنا، ولا دافع لقضائنا.
[عدل][سورة الملك (67): الآيات 20 الى 27]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) ويَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
شرح المفردات
جند: أي عون، ينصركم: أي يساعدكم فيدفع العذاب عنكم، من دون الرحمن: أي من غيره، في غرور: أي في خداع من الشيطان الذي يغركم بأن لا عذاب ولا حساب، أمسك رزقه: أي بإمساك المطر وغيره من الأسباب التي ينشأ منها الرزق، لجّوا: أي تمادوا، في عتوّ: أي تكبر وعناد عن قبول الحق، ونفور: أي إعراض وتباعد منه، مكبّا على وجهه: أي واقعا عليه، سويا: أي معتدلا منتصبا، والأفئدة: العقول واحدها فؤاد، ذرأكم: أي خلقكم، الوعد: أي الحشر الموعود، إنما العلم: أي العلم بوقته، زلفة: أي مزدلفا قريبا، سيئت وجوه الذين كفروا: أي تبين فيها السوء والقبح إذ علتها الكآبة والقترة، ويقال: ساء الشيء يسوء إذا قبح، تدّعون: أي تطلبونه وتستعجلونه استهزاء وإنكارا.
المعنى الجملي
بعد أن أبان للمشركين عجائب قدرته فيما يشاهدونه من أحوال الطير، ووبخهم على ترك التأمل فيها - أردفه بتوبيخهم على عبادتهم غيره تعالى يبتغون منه نصرا ورزقا، منكرا عليهم ما اعتقدوه، مبينا لهم أنهم لا يصلون إلى ما أمّلوه، وإلا فليبينوا هذا الناصر والمعين والرازق إذا هو أمسك رزقه.
أما وقد وضح الحق لذي عينين فهم في لجاج وعناد بعد وضوح الحجة وتبين المحجة، ثم ضرب مثلا يبين حالى المشرك والموحّد، فمثّل حال الأول بحال من يمشى منحنيا إلى الأمام على وجهه، فلا يدرى أين يسلك، ولا كيف يذهب، فيكون حائرا ضالا، ومثّل حال الثاني بحال من يمشى منتصب القامة على الطريق الواضح، فيرى ما أمامه ويهتدى إلى ما يريد.
ثم أعقب هذا بذكر الدلائل على تفرده بالألوهية بذكر خلق الإنسان في الأرض وإعطائه نعمة السمع والبصر، وأرشد إلى أن القليل من الناس شكور لهذه النعم.
ثم أردف هذا بذكر سؤال المشركين للرسول عن ميقات البعث استهزاء به، وإجابته إياهم بأن علمه عند الله وليس له من علمه شيء، وإنما هو نذير مبين، وذكر أنه حين تقوم القيامة ويعرف المشركون قرب وقوع ما كانوا ينكرون تعلو وجوههم غبرة، ترهقها قترة، ويقال لهم: إن ما كنتم تستعجلون قد وقع ولا مردّ له، فماذا أنتم فاعلون؟.
الإيضاح
(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ؟ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) أي بل من هذا الذي يعينكم في دفع العذاب عنكم إذا أراد بكم سوءا؟ فما أنتم في زعمكم أنكم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتكم لا بحفظ الله لكم إلا في ضلال مبين، وقد أغواكم الشيطان، وغركم بهذه الأماني الباطلة.
وفي قوله: (مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) إشارة إلى أنه برحمته أبقى الناس في الأرض مع ظلمهم وجهالتهم، إذ رحمته وسعت كل شيء، فوسعت البرّ والفاجر، والطير في السماء، والأنعام في الأرض.
ثم انتقل من توبيخهم على دعوى ناصر سواه إلى توبيخهم على دعوى رازق غيره فقال:
(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟) أي بل من ذا الذي يرزقكم إن منع ربكم عنكم أسباب رزقه من الأمطار وغيرها، أو وقف الهواء فلم تجر الرياح، أو جعل ماء البحر غورا؟
والخلاصة - إنه لا جند لكم ينصركم إن هو عذبكم، ولا رازق يرزقكم إن هو حرمكم أرزاقكم.
وبعد أن حصحص الحق قال مبينا عتوهم وطغيانهم:
(بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي إنهم يعلمون ذلك حق العلم ويعبدون غيره، فما هذا منهم إلا عناد واستكبار ونفور عن قبول الحق، وما جرأهم على هذا إلا الشيطان الذي غرهم بوسوسته، فظنوا أن آلهتهم تنفعهم وتدفع الضر عنهم وتقرّبهم إلى ربهم زلفى.
ثم ضرب مثلا يبين به الفارق بين حالى المشرك والموحد، جعل فيه المعقول بصورة المحسوس، ليكون أبين للحجة، وأوضح لطريق المحجة فقال:
(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟) أي أفمن يمشى وهو يتعثر في كل ساعة، ويخر على وجهه في كل خطوة، لتوعر طريقه، واختلاف أجزائها انخفاضا وارتفاعا - أهدى سبيلا وأرشد إلى المقصد الذي فؤمه، أم من يمشى سالما من التخبط والعثار على الطريق السوي الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف؟ - فهذا المكب على وجهه هو المشرك الذي يمشى على وجهه في النار يوم القيامة، والذي يمشى سويا هو الموحد الذي يحشر على قدميه إلى الجنة.
وبعد أن امتنّ على عباده بما آتاهم من زينة السماء، وتذليل الأرض، وإمساك الطير في الهواء - أخذ يذكر ما هو أقرب إلينا وهو خلق أنفسنا فقال آمرا رسوله أن يبين لهم ذلك:
(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي قل لهم: إن ربكم هو الذي برأكم وجعل لكم السمع لتسمعوا به المواعظ، والأبصار لتنظروا بها بدائع صنع الخالق، والأفئدة لتتفكروا في كل هذا، وتستفيدوا منه الفوائد العقلية والمادية.
ثم أبان أن الإنسان لنعمة ربه لكنود فقال:
(قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) أي قلما تستعملون هذه القوى التي أنعم بها ربكم عليكم في طاعته، وامتثال أوامره، وترك زواجره، وذلك هو شكرانها.
ثم لخص هذا كله بقوله آمرا رسوله:
(قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي قل لهم منبها إلى خطئهم: إن ربكم هو الذي برأكم في الأرض وبعثكم في أرجائها على اختلاف ألسنتكم وألوانكم، وأشكالكم وصوركم، ثم يجمعكم كما فرقكم، ويعيدكم كما بدأكم للحساب والجزاء، فيجزى كل نفس بما كسبت، إنه سريع الحساب.
وبعد أن ذكر أن إليه المرجع والمآب - أردفه بذكر مقالة الكافرين المنكرين لذلك فقال:
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويسألون الرسول استهزاء وتهكما: متى يقع ما تعدنا به من الخسف والحاصب في الدنيا، والحشر والعذاب في الآخرة إن كنت صادقا فيما تدعى وتقول؟
فأمر رسوله أن يجيبهم بأن علم ذلك عند بارئ النسم فقال:
(قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) أي إنما علم ذلك على وجه التعيين عند ربي لا يعلمه إلا هو، وقد أمرني أن أخبركم بأن ذلك كائن لا محالة فاحذروه.
ونحو الآية قوله: « إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ».
ثم بين وظيفة الرسول فقال:
(وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وإنما أنا منذر من عند ربي أبين لكم شرائعه، ما حلل منها وما حرم، لتكونوا على بينة من أمركم، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم.
ثم بين حالهم حين نزول ذلك الوعد الموعود فقال:
(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أي فلما رأوا العذاب الموعود قريبا « وكل آت قريب وإن طال زمنه » ساءهم ذلك وعلت وجوههم الكآبة والخسران، وغشيتها القترة والسواد، إذ جاءهم من أمر الله ما لم يكونوا يحتسبون، ويقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: هذا الذي كنتم تستعجلون وقوعه وتقولون لرسوله: « فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ».
ونحو الآية قوله: « وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ».
[عدل][سورة الملك (67): الآيات 28 الى 30]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
شرح المفردات
أرأيتم: أي أخبروني، غورا: أي غائرا في الأرض لا تناله الدلاء، معين: أي جار سهل المأخذ تصل إليه الأيدي.
المعنى الجملي
روي أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله وعلى المؤمنين بالهلاك كما حكى الله عنهم في آية أخرى بقوله: « أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ » وقوله: « بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا » فنزلت الآية، ثم أمره أن يقول لهم: إن هلاكى أو رحمتى لا تجيركم من عذاب الله، ثم أمره أن يقول لهم: إنا آمنا بربنا وتوكلنا عليه، وستعلمون غدا من الهالك؟ ثم أمره أن يقول لهم: إن غار ماؤكم في الأرض ولم تصل إليه الدلاء، فمن يأتيكم بماء عذب زلال تشربونه؟
الإيضاح
أجاب سبحانه عن تمنى المشركين موته ومن معه بوجهين:
(ا) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي قل لهم موبخا: أخبروني عن فائدة موتى لكم: سواء أماتنى الله ومن معى، أو أخر أجلنا فأى راحة لكم في ذلك، وأي منفعة لكم فيه، ومن ذا الذي يجيركم من عذاب الله إذا نزل بكم، أتظنون أن الأصنام أو غيرها تجيركم وهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب، فتقروا بالتوحيد والنبوة والبعث؟.
وخلاصة هذا - إنه لا مجير لكم من عذاب الله بسبب كفركم الموجب لهذا العذاب - سواء هلكنا كما تتمنون ففزنا برحمة الله، أو انتصرنا عليكم ورفعنا شأن الإسلام كما نرجو، فكلا الأمرين فيه ظفر بما ينبغي، ونيل لما نحب ونهوى.
وفي هذا إيماء إلى أمرين:
(1) حثهم على طلب الخلاص بالإيمان الخالص لله والإخبات إليه.
(2) إنه كان ينبغي أن يكون ما هم فيه شاغلا لهم عن تمنى هلاك النبي ومن معه من المؤمنين.
(ب) (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) أي قل لهم: آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم، وعليه توكلنا في جميع أمورنا كما قال: « فاعبده وتوكّل عليه » وهو سيجيرنا من عذاب الآخرة.
وفي هذا تعريض بهم حيث اتكلوا على أولادهم وأموالهم « وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلادًا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ » وإشارة إلى أنهم لا يرحمون في الدارين، لأنهم كفروا بالله وتوكلوا على غيره.
ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما قبله فقال:
(فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي فسيستبين لكم من الضالّ منا ومن المهتدى. ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة؟.
ولما ذكر أنه يجب التوكل عليه لا على غيره أقام الدليل على ذلك فقال آمرا رسوله أن يقول لهم:
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي قل لهم: أخبروني إن ذهب ماؤكم في الأرض ولم تصل إليه الدلاء، فمن يأتيكم بماء جار تشربونه عذبا زلالا. ولا جواب لكم إلا أن تقولوا هو الله، وإذا فلم تجعلون ما لا يقدر على شيء شريكا في العبادة لمن هو قادر على كل شيء.
وفي هذا طلب إقرار منهم ببعض نعمه، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر.
وقصارى ذلك - إنه تعالى فضلا منه وكرما أنبع لكم المياه وأجراها في سائر الأقطار بحسب حاجتكم إليها قلة وكثرة، فله الحمد والمنة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.