قوله تعالى: { {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} } فلا يوجد فيها ماء.
و{ {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} } بمعنى غائر فهو مصدر بمعنى اسم الفاعل، فدعا دعوة يكون فيها زوال هذه الجنة إمَّا بماء يغرقها حتى تصبح { {صَعِيدًا زَلَقًا} }، وإما بغور لا سُقيا معه لقوله: { {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا *} } وكلا الأمرين تدمير وخراب. فالفيضانات تدمر المحصول، وغور الماء حتى لا يستطيع أن يطلبه لبعده في قاع الأرض أيضاً يدمر المحصول، فماذا كان بعد هذا الدعاء أو هذا التوقع؟
* * *
{{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا *}}.
قوله تعالى: { {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} } أي بثمر صاحب الجنتين فهلكت الجنتان.
{ {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} } من الندم، وذلك أن الإنسان إذا ندم يقلب كفيه على ما قد حصل.
{ {عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} } وهذا يدل على أنه أنفق فيها شيئاً كثيراً.
{ {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} } أي هامدة على عروشها. و{{عُرُوشِهَا}} جمع عرش أو عريش وهو ما يوضع لتمدد عليه أغصان الأعناب وغيرها.
{ {وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} } ولكن الندم بعد فوات الأوان لا ينفع، إنما ينتفع من سمع القصة، أما من وقعت عليه فلا ينفعه الندم لأنه قد فات الأوان.
* * *
{{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا *}}
فالذي كان يفتخر به ويقول: { {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا} } لم تمنعه فِئَتُهُ من عقوبة الله ولم ينتصر هو بنفسه لأنه والعياذ بالله كفر وحاور المؤمن فعوقب بهذه العقوبة.
* * *
{{هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا *}}.
قوله تعالى: { {هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ} } فيها قراءتان:
1 ـ الوِلاية 2 ـ الوَلايَة.
فالوَلاية: بمعنى النُّصرة، كما قال تعالى: {{مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}} [الأنفال: 72] .
والوِلاية: بمعنى الملك والسلطة، فيوم القيامة لا نصرة ولا ملك إلاَّ { {لِلَّهِ الْحَقِّ} }، وإذا كان ليس هناك انتصار ولا سلطان إلا لله فإن جميع من دونه لا يفيد صاحبه شيئاً.
{ {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} }، { {هُوَ} } الضمير يعود على الله، { {خَيْرٌ ثَوَابًا} } من غيره، إذا أثاب عن العمل فهو { {خَيْرٌ ثَوَابًا} } لأن غير الله إن أثاب فإنه يثيب على العمل بمثله، وإن زاد فإنه يزيد شيئاً يسيراً أما الله فإنه يثيب العمل بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
كذلك هو { {وَخَيْرٌ عُقْبًا} } جلَّ وعلا، لأن من كان عاقبته نصر الله عزّ وجل وتَوَلِّيَهُ فلا شك أن هذا خير من كل ما سواه. جميع العواقب التي تكون للإنسان على يد البشر تزول لكن العاقبة التي عند الله عزّ وجل لا تزول.
إنَّ هذا المثل الذي ضربه الله في هذه الآيات هل هو مثل حقيقي أو تقديري؟ يعني هل هذا الشيء واقع أو أنه شيء مُقدَّر؟
الجواب: من العلماء من قال إنه مثل تقديري كقوله تبارك وتعالى: {{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *}} [النحل: 76] ، وكقوله: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [الزمر: 29] ، وما شابه ذلك، فيكون هذا مثلاً تقديرياً وليس واقعياً. ولكن السياق وما فيه من المحاورة والأخذ والرد يدل على أنه مثل حقيقي واقع، فهما رجلان أحدهما أنعم الله عليه والثاني لم يكن مثله.
ثم ضرب الله تعالى مثلاً آخر فقال:
{{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا *}}.
قوله تعالى: { {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} } وهو المطر { {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} } يعني أن الرِّياض صارت مختلطة بأنواع النبات المتنوع بأزهاره وأوراقه وأشجاره كما يشاهد في وقت الربيع كيف تكون الأرض، سبحان الله، كأنه وَشْيٌ من أحسن الوشْيات، إذا اختلط من كل نوع ومن كل جنس.
{ {فَأَصْبَحَ} } يعني هذا النبات المختلف المتنوع.
{ {هَشِيمًا} } هامداً.
{ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا *} } أي تحمله، فهذا هو { {مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} }. الآن الدنيا تزدهر للإنسان وتزهو له وإذا بها تخمد بموته أو فَقدها، لا بد من هذا، إما أن يموت الإنسان أو أن يفقد الدنيا . هذا مثل موافق تماماً، وقد ضرب الله تعالى هذا النوع من الأمثال في عدة سور من القرآن الكريم حتى لا نغتر بالدنيا ولا نتمسك بها، والعجب أننا مغترون بها ومتمسكون بها مع أن أكدارها وهمومها وغمومها أكثر بكثير من صفوها وراحتها . والشاعر الذي قال:
فيوم علينا ويوم لنا***ويوم نُساءُ ويومٌ نُسَرْ
لا يريد، كما يظهر لنا، المعادلة، لكن معناه أنه ما من سرور إلاَّ ومعه مساءة، وما من مساءة إلاَّ ومعها سرور، لكن صفوها أقل بكثير من أكدارها، حتى المنعمون بها ليسوا مطمئنين بها كما قال الشاعر الآخر:
لا طِيبَ للعيش ما دامت مُنغَّصَةً***لذَّاتُه بادِّكار الموت والهرمِ
قال تعالى: { {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} } ما وجد فهو قادر على إعدامه، وما عُدِم فهو قادر على إيجاده، وليس بين الإيجاد والعدم إلاَّ كلمة {{كُنْ} }، قال الله تعالى: {{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}} [يس: 82] . وفي قوله: { {مُقْتَدِرًا} } مبالغة في القدرة، ثم قال الله عزّ وجل مقارناً بين ما يبقى وما لا يبقى:
{{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً *}}.
قوله تعالى: { {الْمَالُ} } من أي نوع سواء كان من العروض أو النقود أو الآدميين أو البهائم.
{ {وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} } ولا ينفع الإنسان في الآخرة إلاَّ ما قدَّم منها، وذكر البنين دون البنات لأنه جرت العادة أنهم لا يفتخرون إلاَّ بالبنين، والبنات في الجاهلية مهينات بأعظم المهانة كما قال الله عزّ وجل: {{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *}} [النحل: 58] ، أي صار وجهه مسوداً وقلبه ممتلئاً غيظاً { يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } يعني يختبئ منهم {{مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} }، ثم يُقَدِّرُ في نفسه {{أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ}} [النحل: 59] . بقي قسم ثالث وهو أن يُمسِكَهُ على عِزٍّ وهذا عندهم غير ممكن، ليس عندهم إلاَّ أحد أمرين:
1 ـ إما أن يمسكه على هون.
2 ـ يَدُسه في التراب، أي يدفنه فيه وهذا هو الوأد، قال الله تعالى: {{أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} }.
وقوله تعالى: { {زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} } أي أن الإنسان يتجمل به يعني يتجمل أنَّ عنده أولاداً، قدر نفسك أنك صاحب قِرى يعني أنك مضياف وعندك شباب، عشرة، يستقبلون الضيوف، تجد أن هذا في غاية ما يكون من السرور، هذه من الزينة، كذلك قدر نفسك أنك تسير على فرس وحولك هؤلاء الشباب يَحُفُّونك من اليمين ومن الشمال ومن الخلف ومن الأمام، تجد شيئاً عظيماً من الزينة، ولكن هناك شيء خير من ذلك.
قال تعالى: { {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} }.
{ {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} } هي الأعمال الصالحات من أقوال وأفعال ومنها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومنها الصدقات والصيام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، هذه الباقيات الصالحات.
{ {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} } أي أجراً ومثوبة.
{ {وَخَيْرٌ أَمَلاً} } أي خير ما يُؤمِّله الإنسان لأن هذه الباقيات الصالحات هي كما وصفها الله بباقيات ، أما الدنيا فهي فانية وزائلة.
* * *
{{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا *}}.
قوله تعالى: { {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} } أي اذكر لهم { {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} } وعلى هذا فإن { {يَوْمَ} } ظرف عامِلُهُ محذوف والتقدير اذكر { {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا *} } أي: اذكر للناس هذه الحال، وهذا المشهد العظيم { {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} } وقد بين الله عزّ وجل في آية أخرى أنه يسيرها فتكون سراباً {{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا *}} [النبأ: 20] ، وتكون كالعهن المنفوش: {{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ *}} [القارعة: 5] ، وذلك بأن الله تعالى يدُك الأرض وتصبح الجبال كثيباً مهيلاً {{يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً *}} [المزمل: 14] ثم تتطاير في الجو، هذا معنى تُسَيَّرُ. ومن الآيات الدالة على هذا المعنى قول الله تبارك وتعالى في سورة النمل: {{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}} [النمل: 88] . بعض الناس قال إنَّ هذه الآية تعني دوران الأرض، فإنك ترى الجبال فتظنها ثابتة ولكنها تسير، وهذا غلط وقول على الله تعالى بلا علم لأن سياق الآية يأبى ذلك كما قال الله تعالى: {} [النمل: 87 ـ 89] . فالآية واضحة أنها يوم القيامة، وأما زعم هذا الرجل القائل بذلك بأن يوم القيامة تكون الأمور حقائق وهنا يقول: {{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا}} [النمل: 88] فلا حسبان في الآخرة، فهذا غلط أيضاً لأنه إذا كان الله أثبت هذا فيجب أن نؤمن به ولا نحرفه بعقولنا، ثم إن الله عزّ وجل يقول: {{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }} [الحج: 1، 2] . فإذا قلنا إن زلزلة الساعة هي قيامها، فقد بيَّن الله أن الناس يراهم الرائي فيظنهم سكارى وما هم بسكارى، وعلى كل حال فإن الواجب علينا جميعاً أن نجري الآيات على ظاهرها وأن نعرف السياق لأنه يعين المعنى ، فكم من جملة في سياق يكون لها معنى ولو كانت في غير هذا السياق، لكان لها معنى آخر، ولكنها في هذا السياق يكون لها المعنى المناسب لهذا السياق.
وقوله تعالى: { {وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} } أي: ظاهرة لأنها تكون قاعاً وصفصفاً، وهي الآن ليست بارزة لأنها مكورة، وأكثرها غير بارز، ثم إن البارز لنا أيضاً كثير منه مختفٍ بالجبال، فيوم القيامة لا جبال ولا أرض كروية بل تمد الأرض مدَّ الأديم، قال الله عزّ وجل: {{ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ }} [الانشقاق: 1 ـ 3] ، فقوله: {{وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ *}} [الانشقاق: 3] يدل على أن الأرض الآن غير ممدودة.
وقوله: { {وَحَشَرْنَاهُمْ} } أي الناس، بل إن الوحوش تحشر كما قال الله عزّ وجل: {{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ *}} [التكوير: 5] . بل جميع الدواب أيضاً كما قال تعالى في سورة الأنعام: {{وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ *}} [الأنعام: 38] . فكلٌّ شيء يحشر، ولهذا يقول الله عزّ وجل هنا: { {وَحَشَرْنَاهُمْ} } أي: الناس، وفي الآية الأخرى {{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ *} } وفي الأخيرة جميع الدواب.
وقوله: { {فَلَمْ نُغَادِرْ} } أي نترك، { {مِنْهُمْ أَحَدًا} } كل الناس يحشرون، إن مات في البر حشر، في البحر حشر، في أي مكان، لا بد أن يحشر يوم القيامة ويجمع.
* * *
{{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا *}}.
قوله تعالى: { {وَعُرِضُوا} } أي: عرض الناس { {عَلَى رَبِّكَ} } أي: على الله سبحانه وتعالى.
{ {صَفًّا} } أي: حال كونهم صفاً بمعنى صفوفاً، فيحاسبهم الله عزّ وجل، أما المؤمن فإنه يخلو به وحده ويقرره بذنوبه ويقول له عملت كذا وعملت كذا، فيقر فيقول له أكرم الأكرمين: «إني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»[(24)] يغفر الله عزّ وجل له يوم القيامة، ولا يعاقبه عليها وفي الدنيا يسترها، فكم من ذنوب لنا اقترفناها في الخفاء؟ كثيرة، سواء كانت عملية في الجوارح الظاهرة أو عملية من عمل القلوب، فسوء الظن موجود، الحسد موجود، إرادة السوء للمسلم موجودة، وهو مستور عليه. وأعمال أخرى من أعمال الجوارح ولكن الله يسترها على العبد. إننا نؤمِّل إن شاء الله أن الذي سترها علينا في الدنيا، أن يغفرها لنا في الآخرة.
ثم قال تعالى: { {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} } أي يقال لهم ذلك. وهذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: اللام وقد والقسم المقدر، يعني والله لقد جئتمونا { {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} } ليس معكم مال ولا ثياب ولا غير ذلك، بل ما فقد منهم يرد إليهم، كما جاء في الحديث الصحيح أنهم يحشرون يوم القيامة «حفاة، عراة، غرْلا»[(25)] و «غُرْلا» جمع أغرل وهو الذي لم يختن، إذاً سوف يعرضون على الله صفا ويقال: { {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} }، ويقال أيضاً:
{ {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} }، هذا إضراب انتقال، فهم يوبخون { {لَقَدْ جِئْتُمُونَا} } فلا مفر لكم { {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} } فلا مال لكم ولا أهل، ويوبخون أيضاً على إنكارهم البعث فيقال: { {بَلْ زَعَمْتُمْ} } في الدنيا { {أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} }، وهذا الزعم تبين بطلانه، فهو باطل.
* * *
{{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُون ياوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا *}}.
قوله تعالى: { {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} } أي وزِّع بين الناس، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله.
{ {فَتَرَى} } أيها الإنسان { {الْمُجْرِمِينَ} } أي: الكافرين { {مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} } أي: خائفين مما كتب فيه لأنهم يعلمون ما قدموه لأنفسهم، وهذا يشبه قول الله تعالى عن اليهود الذين قالوا: {{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً}} [البقرة: 80] ، فتُحُدوا وقيل لهم: {{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الْدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *}} [البقرة: 94] ، قال الله: {{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}} يعني يعرفون أنهم إذا ماتوا عُذِّبوا، ومن كان يعلم أنه إذا مات عُذب فلن يتمنى الموت أبداً، فهؤلاء مشفقون مما في كتاب الله، يعني يعلمون أنه مُحتوٍ على الفضائح والسيئات العظيمة.
ويقولون إذا علموا: { {ياوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} }.
{ يا } حرف نداء { ويلتنا } وهي الهلاك ولكن كيف تنادى؟
الجواب: إما أن «يا» للتنبيه فقط لأن النداء يتضمن الدعاء والتنبيه، وإما أن نقول إنهم جعلوا ويلتهم بمنْزلة العاقل الذي يوجه إليه النداء، ويكون التقدير «يا ويلتنا احضري»! لكن المعنى الأول أقرب لأنه لا يحتاج إلى تقدير، ولأنه أبلغ.
{ {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} } أي شيء لهذا الكتاب؟
{ {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} } يعني أثبتها عدداً، كأنهم يتضجرون من هذا، ولكن هذا لا ينفعهم.
{ {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا} } أي وجدوا ثواب ما عملوا.
{ {حَاضِرًا} } لم يغب منه شيء وعبَّر الله تعالى بالعمل عن الثواب لأنه مثلُه بلا زيادة.
ثم قال الله تعالى: { {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} } وذلك لكمال عدله سبحانه وتعالى فلا يزيد على مسيء سيئة واحدة، ولا يَنقص من محسن حسنة واحدة، قال تعالى: {{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا *}} [طه: 112] . وهذه الآية { {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} } من الصفات المنفية عن الله، وأكثر الوارد في الصفات الصفات المثبتة كالحياة والعلم والقدرة. وأما ذكر الصفات المنفية فقليل بالنسبة للصفات المثبتة، ولا يتم الإيمان بالصفات المنفية إلاَّ بأمرين:
الأول نفي الصفة المنفية.
والثاني إثبات كمال ضدها.
فالنفي الذي لم يتضمن كمالاً لا يمكن أن يكون في صفات الله . بل لا بد في كل نفي نفاه الله عن نفسه أن يكون متضمناً لإثبات كمال الضد، والنفي إن لم يتضمن كمالاً فقد يكون لعدم قابليته، أي قابلية الموصوف له، وإذا لم يتضمن كمالاً فقد يكون لعجز الموصوف، وإذا كان نفياً محضاً فهو عدمٌ لا كمال فيه، والله تعالى له الصفات الكاملة كما قال تعالى: {{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى}} [النحل: 60] أي الوصف الأكمل.
قلنا إذا لم يتضمن النفي كمالاً فقد يكون لعدم قابليته، كيف ذلك؟ ألسنا نقول إن الجدار لا يظلِم؟ بلى، هل هذا كمال للجدار؟ لا، لماذا؟ لأن الجدار لا يقبل أن يوصف بالظلم، ولا يوصف بالعدل، فليس نفي الظلم عن الجدار كمالاً، وقد يكون النفي إذا لم يتضمن كمالاً نقصاً لعجز الموصوف به عنه، لو أنك وصفت شخصاً بأنه لا يظلم بكونه لا يجازي السيئة بمثلها لأنه رجل ضعيف لا يقدر على الانتصار لنفسه لم يكن هذا مدحاً له.
فالخلاصة أن كل وصفٍ وصف الله به نفسه وهو نفي، فإنه يجب أن نعتقد مع انتفائه ثبوتَ كمال ضده، قال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الأحقاف: 33] ، فعلى هذه القاعدة نفى الله «العي» وهو العجز؛ لثبوت كمال ضد العجز وهو القدرة، إذاً نؤمن أن الله عزّ وجل له قدرة لا يلحقها عجز، وقال تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } [ق: 38] ، أي من تعب وإعياء وذلك لكمال قدرته جلَّ وعلا.
قلنا: إن الله لا يظلم أحداً وذلك لكمال عدله، لكن الجهمية قالوا: «لا يظلم» لعدم إمكان الظلم في حقه، وليس لأنه قادر على أن يظلم ولكنه لا يظلم، قالوا لأن الخلق كلَّهم خلق الله، ملك لله، فإذا كانوا ملكاً لله فإنه إذا عذَّب محسناً فقد عذب ملكه، وليس ذلك ظلماً لأنه يفعل في ملكه ما يشاء، ولكن قولهم هذا باطل،