الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا *إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً *}}.
قوله تعالى: { {وَقُلِ} } الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم. أي قلها معلنا { {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} } لا من غيره، فلا تطلبوا الحق من طريق غير طريق الله عزّ وجل، لأن الحق من عند الله.
{ {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} } والأمر في قوله: { {فَلْيَكْفُرْ} } للتهديد وليس للإباحة بل هو للتهديد كما يهدد الإنسان غيره فيقول: «إن كنت صادقاً فافعل كذا»، ويدل عليه قوله تعالى بعده: { {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} }، يعني من كفر فله النار قد أعدت، وقوله: { {الظَّالِمِينَ} } المراد به الكافرون، والدليل على هذا قوله: { {فَلْيَكْفُرْ} }، فإن قال قائل: «هل الكفر يسمى ظلماً؟».
فالجواب: نعم، كما قال الله تعالى: {{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}} [البقرة: 254] ، ولا أحد أظلم ممن كفر بالله أو جعل معه شريكاً، وهو الذي خلقه وأمده وأعده.
قوله: { {أَحَاطَ بِهِمْ} } أي بأهل النار { {سُرَادِقُهَا} } أي ما حولها، يعني أن النار قد أحاطت بهم فلا يمكن أن يفروا عنها يميناً ولا شمالاً.
وقوله: { {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} } يعني أن أهل النار إذا عَطشوا عَطشاً شديداً وذلك بأكل الزَّقوم أو بغير ذلك أغيثوا بهذا الماء { {بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} } يكون كعَكَر الزيت يعني تَفَلَهُ الخاثر في أسفله أو ما أشبه ذلك مما هو منظر كريه، ولا تقبله النفوس كما قال تعالى: { مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } [إبراهيم: 16، 17] ، أي كالصديد يتجرعه ولا يكاد يُسيغه.
{ {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} }، إذا قَرُبَ منها شَواها وتساقطت والعياذ بالله من شدة فيح هذا الماء، وإذا وصل إلى أمعائهم قطعها كما قال جلَّ وعلا: {{وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}} [محمد: 15] ، وما أعظم الوجع والألم فيمن تقطع أمعاؤه من الداخل، لكن مع ذلك تقطع وتعاد كالجلود {{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}} [النساء: 56] ، الله أكبر، سبحان القادر على كل شيء، وبلحظة يكون هذا الشيء متتابعاً، كلما نَضَجت بُدِّلوا، وكلما تقطَّعت الأمعاء فإنها توصل بسرعة.
قوله: { {بِئْسَ الشَّرَابُ} } هذا قدح وذم لهذا الشراب، و«بئس» فعل ماضٍ لإنشاء الذم.
قوله: { {وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} } أي وقبح مرتفقها والارتفاق بها. والمرتفق ما يرتفق به الإنسان، قد يكون حسناً وقد يكون سيئاً، ففي الجنة {{وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}} [الكهف: 31] ، وفي النار {{وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}} [الكهف: 29] .
* * *
{{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً *}}.
هذا من أسلوب القرآن، فإن الله عزّ وجل إذا ذكر أهل النار ذكر أهل الجنة، وهذا من معنى قوله: {{مَثَانِيَ}} [الزمر: 23] أي تثنى فيه المعاني والأحوال والأوصاف ليكون الإنسان جامعاً بين الخوف والرجاء في سيره إلى ربه.
قوله تعالى: { {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} } قد سبق الكلام في معنى هذه الآية، قال تعالى: { {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} } ولم يقل «إنَّا لا نضيع أجرهم»، ولكن قال تعالى: { {أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}} وذلك لبيان العلة في ثواب هؤلاء وهو أنهم أحسنوا العمل، و {{هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ *}} [الرحمن: 60] ، هذا من الوجه المعنوي، ومن الوجه اللفظي أن تكون رؤوس الآية متوافقة ومتطابقة، لأنه لو قال: «إنَّا لا نضيع أجرهم» لاختلفت رؤوس الآيات.
وبماذا يكون الإحسان في العمل؟ يكون بأمرين:
1 ـ الإخلاص لله عزّ وجل 2 ـ المتابعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يخفى ما في الآية الكريمة من الحث على إحسان العمل.
* * *
{{أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا *}}.
قوله تعالى: { {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} } المشار إليه الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
{ {جَنَّاتُ} } جمع جنة وهي الدار التي أعدها الله لأوليائه فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
{ {عَدْنٍ} } بمعنى الإقامة، أي جنات إقامة لا يبغون عنها حِوَلا أي تحولا عنها، ومن تمام النعيم أن كل واحد منهم لا يرى أن أحداً أنعم منه، ومن تمام الشقاء لأهل النار أن كل واحد منهم لا يرى أحداً أشد منه عذاباً، ولكن هؤلاء، أهل الجنة، لا يرون أن أحداً أنعم منهم لأنهم لو رأوْا ذلك لتنغص نعيمهم حيث يتصورون أنهم أقل.
{ {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} }. الأنهار جمع نهر وهي أربعة أنواع ذكرها الله تعالى في سورة محمد، قال الله تعالى: {{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصْفّىً}} [محمد: 15] ، وهنا قال: { {مِنْ تَحْتِهِمُ} }، وفي آية أخرى قال: «تحتهم» وفي ثالثة {{مِنْ تَحْتِهَا}}، وفي رابعة: {{تَحْتِهَا}} والمعنى واحد، لأنهم إذا كانت الأنهار تجري تحت أشجارها وقصورها فهي تجري تحت سكانها.
قوله تعالى: { {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} }.
{ {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} } أي الجنات.
{ {مِنْ أَسَاوِرَ} }، قال بعضهم: إن { {مِنْ} } هنا زائدة لقول الله تعالى: {{وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ}} [الإنسان: 21] ، فـ { {مِنْ} } زائدة. ولكن هذا القول ضعيف، لأن { {مِنْ} } لا تزاد في الإثبات كما قال ابن مالك رحمه الله في الألفية:
وزيد في نفي وشبهِهِ فَجَرّ***نكرة كما لباغٍ من مفر
وعلى هذا فإما أن تكون للتبعيض: أي يحلون فيها بعض أساور، أي يحلى كل واحد منهم شيئاً من هذه الأساور وحينئذٍ لا يكون إشكال، وإما أن تكون «للبيان» أي بيان ما يحلون، وهو أساور وليس قلائد أو خُروصا مثلاً، وأما قوله: { {مِنْ ذَهَبٍ} } فهي بيانية، أي لبيان الأساور أنها من ذهب، ولكن لا تحسبوا أن الذهب الذي في الجنة كالذهب الذي في الدنيا، فإنه يختلف اختلافاً عظيماً، قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»[(22)] ، ولو كان كذهب الدنيا لكان العين رأته.
قوله تعالى: { {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} }، السندس: ما رَقَّ من الديباج والإستبرق ما غلظ منه.
وقوله: { {خُضْرًا} } خصَّها باللون الأخضر لأنه أشد ما يكون راحة للعين ففيه جمال وفيه راحة للعين.
قال تعالى: { {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} }.
قوله: { {مُتَّكِئِينَ} } حال من قوله تبارك وتعالى: { {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} } أي حال كونهم متكئين فيها، والاتكاء يدل على راحة النفس وعلى الطمأنينة.
قوله: { {عَلَى الأَرَائِكِ} } جمع أريكة، والأريكة نوع من المرتفق الذي يرتفق فيه، وقيل: إن الأريكة سرير في الخيمة الصغيرة المغطاة بالثياب الجميلة تشبه ما يسمونه بالكوخ.
قال الله تعالى: { {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} } هذا مدح لهذه الجنة وما فيها من نعيم، ففيها الثناء على هذه الجنة بأمرين: بأنها { {نِعْمَ الثَّوَابُ} } وأنها { {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} }. قال الله تعالى: {{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً *}} [الفرقان: 24].
* * *
{{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا *}}.
قوله تعالى: { {وَاضْرِبْ} } يعني اجعل وصيِّر.
{ {لَهُمْ} } أي للكفار: قريش وغيرهم.
{ {مَثَلاً} } مفعول اضرب، وبَيَّن المثل بقوله: { {رَجُلَيْنِ} } وعلى هذا يكون «رجلين» عطف بيان وتفصيل للمثل.
قوله: { {جَعَلْنَا لأَِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} } أغلب ما في الجنتين العنب، وأطراف الجنتين النخيل وما بينهما زرع، ففيهما الفاكهة والغذاء من الحب وثمر النخل.
* * *
قال الله تعالى:
{{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهَرًا *}}.
{} قوله تعالى: { {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} } ولم يقل آتتا أُكُلَهَا؟ لأنه يجوز مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى في كلتا، وقد اجتمع ذلك في قول الشاعر:
كلاهما حين جدَّ الجري بينهما***قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
يشير إلى فرسين تسابقا فيقول: كلاهما، أي كلا الفرسين، «حين جد الجري بينهما» أي المسابقة، «قد أقلعا» أي توقفا عن المجاراة، و«رابي» أي منتفخ، فقد قال: «قد أقلعا» ولم يقل: «قد أقلع»، وقال: «رابي» ولم يقل: «رابيان»، ففي البيت مراعاة المعنى ومراعاة اللفظ، وهنا آتت أُكُلَها مراعاة اللفظ.
قوله: { {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} } أي ولم تنقص.
قوله تعالى: { {وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهَرًا} } كان خلال الجنتين نهر من الماء يجري بقوة، فكان في الجنتين كلُّ مقومات الحياة: أعناب، ونخيل، وزرع، ثم بينهما هذا النهر المطَّرِد.
* * *
قال الله تعالى