الجواب: هي الأهلَّة، ولهذا نقول: إن القول بأن «ثلاث مائة سنين» شمسية، «وازدادوا تسعاً» قمرية قول ضعيف.
أولاً: لا يمكن أن نشهد على الله أنه أراد هذا.
ثانياً: أن عدة الشهور والسنوات عند الله بالأهلة، قال تعالى: {{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}} [البقرة: 189] وقال تعالى: {{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}} .
* * *
{{قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا *}}.
قوله تعالى: { {قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} } قوله: { {قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} } أي قل يا محمد: { {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} }، وهذه الجملة تمسك بها من يقول: إنَّ قوله: {{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ}} [الكهف: 25] هي من قول الذين يتحدثون عن مكث أهل الكهف بالكهف وهم اليهود الذين يَدَّعون أن التوراة تدل على هذا، وعلى هذا القول يكون قوله: {{وَلَبِثُوا}} مفعولاً لقول محذوف والتقدير: «وقالوا: لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً»، ثم قال: { {قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} } ولكن هذا القول وإن قال به بعض المفسرين فالصواب خلافه وأن قوله: {{وَلَبِثُوا}} من قول الله، ويكون قوله: { {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} } من باب التوكيد أي: توكيد الجملة أنهم لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً، والمعنى: { {قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} } وقد أعلَمَنا أنهم لبثوا { {ثَلاَثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} } وما دام الله أعلم بما لبثوا فلا قول لأحد بعده.
قال الله عزّ وجل: { {قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا *} } أي له ما غاب في السموات والأرض، أو له علم غيب السموات والأرض، وكلا المعنيين حق، والسموات جمع سماء وهي سبع كما هو معروف، والأرض هي أيضاً سبع أرَضين[(15)]، فلا يعلم الغيب ـ علم غيب السموات والأرض ـ إلاَّ الله، فلهذا من ادعى علم الغيب فهو كافر، والمراد بالغيب المستقبل، أما الموجود أو الماضي فمن ادعى علمهما فليس بكافر؛ لأن هذا الشيء قد حصل وعلمه من علمه من الناس، لكن غيب المستقبل لا يكون إلاَّ لله وحده، ولهذا من أتى كاهناً يخبره عن المستقبل وصدَّقه فهو كافر بالله عزّ وجل؛ لأنه مكذب لقوله تعالى: { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [النمل: 65] ، أما ما كان واقعاً؛ فإنه من المعلوم أنه غيب بالنسبة لقوم وشهادة بالنسبة لآخرين.
{ {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} } هذا يسميه النحويون فعل تعَجُّب.
{ {أَبْصِرْ بِهِ} } بمعنى ما أبصره.
{ {وَأَسْمِعْ} } بمعنى ما أسمعه، وهو أعلى ما يكون من الوصف، والله تبارك وتعالى يبصر كل شيء، يبصر دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في ظلمة الليل، ويبصر ما لا تدركه أعين الناس مما هو أخفى وأدق، وكذلك في السمع، يسمع كل شيء، يعلم السر وأخفى من السر ويعلم الجهر {{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى *}} [طه: 7] . تقول عائشة رضي الله عنها في قصة المجادلة التي ظاهر منها زوجها، وجاءت تشتكي إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وكانت عائشة في الحجرة، والحجرة صغيرة كما هو معروف، وكان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يحاور المرأة وعائشة يخفى عليها بعض الحديث، والله عزّ وجل يقول: {{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *}} [المجادلة: 1] . تقول عائشة رضي الله عنها «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي الحجرة وإنه ليخفى عليَّ بعض حديثها»[(16)]، والله عزّ وجل فوق كل شيء، ومع ذلك سمع قولها ومحاورتها للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفيه الإيمان بأن الله تعالى ذو بصر نافذ لا يغيب عنه شيء وذو سمع ثاقب لا يخفى عليه شيء ، والإيمان بذلك يقتضي للإنسان ألا يُري ربَّه ما يكرهه ولا يُسمعه ما يكرهه؛ لأنك إن عملت أي عمل رآه وإن قلت أي قول سمعه، وهذا يوجب أن تخشى الله عزّ وجل وألا تفعل فعلاً يكرهه ولا تقول قولاً يكرهه الله عزّ وجل، لكن الإيمان ضعيف، فتجد الإنسان عندما يريد أن يقول أو أن يفعل؛ لا يخطر بباله أن الله يسمعه أو يراه إلاَّ إذا نُبِّه، والغفلة كثيرة، فيجب علينا جميعاً أن ننتبه لهذه القضية العظيمة.
{ {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} } قوله: { {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} } هل الضمير يعود على أصحاب الكهف أو على من هم في السموات والأرض؟
الجواب: الثاني هو المتعين، يعني ليس لأحد ولي من دون الله، حتى الكفار وليهم الله عزّ وجل وحتى المؤمنون وليهم الله عزّ وجل قال الله تعالى: {{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ }} [الأنعام: 61 ـ 62] . والله ولي كُلِّ أحد، وهذه هي الولاية العامة ، أليس الله تعالى يرزق الكافرين وينمي أجسامهم وييسر لهم ما في السموات والأرض، وسخر الشمس والقمر والنجوم والأمطار؟! هذه ولاية، ويتولى المؤمنين أيضاً بذلك؛ لكن هذه ولاية عامة.
أما الولاية الخاصة، فهي للمؤمنين. قال تعالى: {{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النَّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}} [البقرة: 257] ، والولاية الخاصة تستلزم عناية خاصة، أن الله يسدد العبد فيفتح له أبواب العلم النافع والعمل الصالح، ولهذا قال: {{يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}}. يخرجهم بالعلم، فيعلمهم أولاً ويخرجهم ثانياً بالتوفيق.
إعراب الجملة هذه: { {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} } نافية، و { {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} } خبر مقدم، و { {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} } مبتدأ مؤخر دخل على هذه الكلمة حرف الجر الزائد لأنك لو حذفت { {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} } وقلت: «ما لهم من دونه وليٌّ» لاستقام الكلام، لكن جاءت { {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} } من أجل التوكيد والتنصيص على العموم، يعني: لا يمكن أن يوجد لأهل السموات والأرض ولي سوى الله.
قوله: { {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} } هذه كقوله تعالى: {{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}} [الأنعام: 57] ، وقال: {{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}} [الشورى: 10] ، والحكم كوني وشرعي، فالخلق والتدبير حكم كوني، والحكم بين الناس بالأوامر والنواهي حكم شرعي، وقوله: { {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} } يشمل النوعين. فلا أحد يشرك الله في حكمه لا الكوني ولا الشرعي، وفيه دليل على وجوب الرجوع إلى حكم الله الشرعي، وأنه ليس لنا أن نُشَرِّع في دين الله ما ليس منه، لا في العبادات ولا في المعاملات، وأما من قال: إن لنا أن نُشَرِّع في المعاملات ما يناسب الوقت، فهذا قول باطل: لأنه على قولهم لنا أن نجوز الربا ولنا أن نجوز الميسر وأن نجوز كل ما فيه الكسب ولو كان باطلا، فالشرع صالح في كل زمان ومكان ولن يُصلحَ آخر هذه الأمة إلاَّ ما أصلح أولها [(17)]، الحكم الكوني لا أحد يُشرك الله فيه ولا أحد يدعي هذا، هل يستطيع أحد أن يُنَزِّل الغيث؟! وهل يستطيع أحد أن يُمسك السموات والأرض أن تزولا؟! ولكن الحكم الشرعي هو محل اختلاف البشر ودعوى بعضهم أن لهم أن يشرعوا للناس ما يرون أنه مناسب.
* * *
قوله تعالى: { {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} } هذا كالنتيجة لقوله: { {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} } يعني إذا كان لا يشرك في حكمه أحداً فاتْلُ: { {وَاتْلُ} }.
فقوله: { {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} } يشمل التلاوة اللفظية والتلاوة العملية، أمّا التلاوة اللفظية فظاهر، تقول: «فلان تلا علي سورة الفاتحة»، والتلاوة الحكمية العملية أن تعمل بالقرآن، فإذا عملت به فقد تلوتَه أي تَبعتَه، ولهذا نقول في قوله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ}} [فاطر: 29] ، يشمل التلاوة اللفظية والحكمية، والخطاب في قوله: { {وَاتْلُ} } للرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولكن اعلم أن الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما دلَّ الدليل على أنه خاص به، فهو خاص به.
الثاني: ما دلَّ الدليل أنه للعموم، فهو للعموم.
الثالث: ما يحتمل الأمرين، فقيل: إنه عام، وقيل: إنه خاص، وتتبعه الأمة لا بمقتضى هذا الخطاب، ولكن بمقتضى أنه أسوتها وقدوتها.
فمثال الأول الذي دلَّ الدليل على أنه خاص به، قوله تبارك وتعالى: {{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ *}} [الشرح: 1] فهذا لا شك أنه خاص به، وكذلك قوله تعالى: { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى } [الضحى: 6] ، فهو خاص به صلّى الله عليه وسلّم.
ومثال الثاني الذي دلَّ الدليل على أنه عام، قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصَوا الْعِدَّةَ}} [الطلاق: 1] ، فقوله: {{طَلَّقْتُمُ}} للجماعة؛ وهم الأمة، لكن الله سبحانه وتعالى نادى زعيمها ورسولها لأنهم تابعون له فقال: {{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ}}، إذاً الخطاب يشمل النبي صلّى الله عليه وسلّم وجميع الأمة، ومثال ما يحتمل الأمرين هذه الآية: { {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} }، لكن قد يقول قائل: إن هذه الآية فيها قرينة قد تدل على أنه خاص به كما سنذكره إن شاء الله، ولكن الأمثلة على هذا كثيرة، والصواب أن الخطاب للأمة ولكن وُجِّه لزعيمها وأسوتها؛ لأن الخطابات إنما توجه للرؤساء والمتبوعين.
وقوله: { {مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} } هو القرآن، وفي إضافة الرب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام دليل على أن ما أوحاه الله إلى رسوله من تمام عنايته به.
وقوله: { {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} } يعني لا أحد يستطيع أن يبدل كلماته، لا الكونية ولا الشرعية، أما الكونية فواضح، لا أحد يستطيع أن يُبَدِّلها، فإذا قال الله تعالى: {{كُنْ}} في أمر كوني فلا يستطيع أحد أن يبدله، أما الشرعية فلا أحد يستطيع شرعاً أن يبدلها. والنفي هنا ليس نفياً للوجود، ولكن النفي هنا للإمكان الشرعي، فلا أحد يستطيع شرعاً أن يبدل كلمات الله الشرعية، فالواجب على الجميع أن يستسلموا لله، فلو قال قائل: وجدنا من يبدل كلام الله! فإن الله أشار إلى هذا في قوله في الأعراب، قال تعالى: {{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ}} [الفتح: 15] . قلنا: هذا تبديل شرعي، والتبديل الشرعي قد يقع من البشر فيحرفون الكلام عن مواضعه، ويفسرون كلام الله بما لا يريده الله، ومن ذلك جميع المعطِّلة لصفات الله عزّ وجل، أو لبعضها ممن بدلوا كلام الله.
{ {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} } يعني لن تجد أيها النبي من دون الله عزّ وجل ملتحداً، أي أحداً تميل إليه أو تلجأ إليه لأن الالتحاد من اللحد وهو الميل، يعني لو أرادك أحد بسوء ما وجدت أحداً يمنعك دون الله عزّ وجل، إذاً عندما يصيب الإنسان شيء يتضرر به أو يخاف منه، يلتجئ إلى من؟ إلى الله، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {{ قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا }} [الجن: 21، 22] .
* * *
{{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا *}}.
قوله تعالى: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } أي احبسها مع هؤلاء الذين يدعون الله دعاء مسألة ودعاء عبادة، اجلس إليهم وقوِّ عزائمهم.
وقوله: { بِالْغَدَاةِ } أي أول النهار.
وقوله: { {وَالْعَشِيِّ} } آخر النهار.
قوله: { {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} } مخلصين لله عزّ وجل يريدون وجهه ولا يريدون شيئاً من الدنيا، يعني أنهم يفعلون ذلك لله وحده لا لأحدٍ سواه.
وفي الآية إثبات الوجه لله تعالى ، وقد أجمع علماء أهل السنة على ثبوت الوجه لله تعالى بدلالة الكتاب والسنة على ذلك، قال الله تعالى: {{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ *}} [الرحمن: 27] . وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أعوذ بوجهك» [(18)]، وأجمع سلف الأمة وأئمتُها على ثبوت الوجه لله عزّ وجل.
ولكن هل يكون هذا الوجه مماثلاً لأوجه المخلوقين؟
الجواب: لا يمكن أن يكون وجه الله مماثلاً لأوجه المخلوقين لقوله تعالى: {{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}} [الشورى: 11] . وقوله تعالى: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم: 65] ، أي شبيهاً ونظيراً، وقال الله تبارك وتعالى: {{فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}} [البقرة: 22] .
وهكذا كل ما وصف الله به نَفْسَهُ فالواجب علينا أن نجريه على ظاهره، ولكن بدون تمثيل، فإن قال قائل: إذا أثبتّ لله وجهاً لزم من ذلك التمثيل، ونحمل قوله: {{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}} [الشورى: 11] ، يعني إلاَّ في ما أثبته كالوجه واليدين؟
فالجواب: أن هذا مكابرة؛ لأننا نعلم حساً وعقلاً أن كل مضاف إلى شيء فإنه يناسب ذلك الشيء، أليس للإنسان وجه، وللجَمَلِ وجه، وللحصان وجه وللفيل وجه؟ بلى، وهل هذه الأوجه متماثلة؟ لا؛ أبداً! بل تناسب ما أضيفت إليه، بل إن الوقت والزمن له وجه، كما في قوله تعالى: {{آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ}} [آل عمران: 72] ، فأثبت أن للزمن وجهاً، فهل يمكن لأحد أن يقول: إن وجه النهار مثل وجه الإنسان؟.
الجواب: لا يمكن، إذاً ما أضافه الله لنفسه من الوجه لا يمكن أن يكون مماثلاً لأوجه المخلوقين؛ لأن كل صفة تناسب الموصوف . فإن قال قائل: إنه قد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته» [(19)]، فما الجواب؟
فالجواب: من أحد وجهين:
الوجه الأول: إما أن يقال: لا يلزم من كونه على صورته أن يكون مماثلاً له، والدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر بأن أوَّل زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر [(20)]، ونحن نعلم أنه ليس هناك مماثلة بين هؤلاء والقمر، لكن على صورة القمر من حيث العموم إضاءةً وابتهاجاً ونوراً. الوجه الثاني: أن يقال: «على صورته» أي على الصورة التي اختارها الله عزّ وجل، فإضافة صورة الآدمي إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم كما في قوله تعالى: {{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}} [البقرة: 114] ، ومن المعلوم أن الله ليس يصلي في المساجد، لكن أضيفت إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم وعلى أنها إنما بنيت لطاعة الله، وكقول صالح عليه السلام لقومه: {{نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}} [الشمس: 13] ، ومن المعلوم أن هذه الناقة ليست لله كما تكون للآدمي يركبها؛ لكن أضيفت إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم، فيكون «خلق آدم على صورته» أو «على صورة الرحمن»[(21)] ، يعني على الصورة التي اختارها من بين سائر المخلوقات، قال الله تعالى في سورة الانفطار: {{ يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ }} [الانفطار: 6، 7] ، أي الذي جعلك جعلا كهذا وهذا يشمل اعتدال القامة واعتدال الخلقة، ففهمنا الآن والحمد لله أن الله تعالى له وجه حقيقي وأنه لا يشبه أوجه المخلوقين . وقوله: { {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} } إشارة للإخلاص، فعليك أخي المسلم بالإخلاص حتى تنتفع بالعمل.
وقوله: { {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} } يعني لا تتجاوز عيناك عن هؤلاء السادة الكرام تريد زينة الحياة الدنيا، بل اجعل نظرك إليهم دائماً وصحبتك لهم دائماً، وفي قوله: {{تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} } إشارة إلى أنَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم لو فارقهم لمصلحة دينية لم يدخل هذا في النهي.
قال تعالى: { {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} } يعني عن ذكره إيَّانا أو عن الذكر الذي أنزلناه، فعلى الأول يكون المراد الإنسان الذي يذكر الله بلسانه دون قلبه، وعلى الثاني يكون المراد الرجل الذي أغفل الله قلبه عن القرآن، فلم يرفع به رأساً ولم ير في مخالفته بأساً.
قوله تعالى: { {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} } أي ما تهواه نفسه.
{ {وَكَانَ أَمْرُهُ} } أي شأنه { {فُرُطًا} } أي منفرطاً عليه، ضائعاً، تمضي الأيام والليالي ولا ينتفع بشيء، وفي هذه الآية إشارة إلى أهمية حضور القلب عند ذكر الله، وأن الإنسان الذي يذكر الله بلسانه لا بقلبه تنْزَع البركة من أعماله وأوقاته حتى يكون أمره فُرطا عليه ، تجده يبقى الساعات الطويلة ولم يحصل شيئاً، ولكن لو كان أمره مع الله لحصلت له البركة في جميع أعماله.