{ {بِالْوَصِيدِ} } وهو فتحة الكهف أو فِناء الكهف يعني: إما أن يكون على الفتحة، وإما أن يكون إلى جنب الكهف في فِنائه ليحرسهم، وفي هذا دليل على جواز اتخاذ الكلب للحراسة، حراسة الآدميين، أما حراسة الماشية فقد جاءت به السنّة، وحراسة الحرث جاءت به السنة كذلك[(6)]. حراسة الآدمي من باب أولى لأنه إذا جاز اتخاذ الكلب لحراسة الماشية والحرث أو للصيد الذي هو كمال فاتخاذه لحراسة البيت من باب أولى.
قال الله تعالى: { {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} } أي لو اطَّلعت أيها الرائي عليهم لولَّيت منهم فراراً، رهبة ينْزِلها الله عزّ وجل في قلب من يراهم، حتى لا يحاول أحد أن يدنو منهم، ولهذا قال: { {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} } مع أنهم لم يلحقوه، لكنه خائف منهم.
{ {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} } ملئت: لم يُملأ قلبُه فقط، بل كلُّه، وهذا يدل على شدة الخوف الذي يحصل لمن رآهم.
* * *
{{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا *}}.
قوله تعالى: { {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} } أي كما فعلنا بهم من هذه العناية من تيسير الكهف لهم، وإنامتهم هذه المدة الطويلة، بعثهم الله، أي مثل هذا الفعل بعثناهم، فعلنا بهم فعلاً آخـر، { {لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} } كما جرت به العادة أن الناس إذا ناموا يتساءلون إذا قاموا، من الناس من يقول: ماذا رأيت في منامك ومن الناس من يقول: لعلَّ نومك لذيذ أو ما أشبه ذلك { {بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا} } ليس المعنى أنهم بعثوا للتساؤل ولكن بعثوا فتساءلوا. فاللام جاءت للعاقبة لا للتعليل، كما في قوله تعالى: {{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً}} [القصص: 8] ، اللام ليست للتعليل أبداً، ولا يمكن أن تكون للتعليل لأن آل فرعون لم يلتقطوه ليكون لهم عدواً وحزناً، ولكنهم التقطوه فكان لهم عدواً وحزناً.
{ {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} } كما جرت العادة، أي كم مدة لبثتم؟ { {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} } { {لَبِثْنَا يَوْمًا} } أي كاملاً.
{ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} } أي بعض اليوم، ذلك لأنهم دخلوا في أول النهار وبُعثوا من النوم في آخر النهار، فقالوا: { {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} } إن كان هذا هو اليوم الثاني أو { {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} } إن كان هذا هو اليوم الأول، وهذا مما يدل على عمق نومهم.
{ {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} } أي قال بعضهم لبعض، وكأن هؤلاء القائلين قد شعروا بأن النومة طويلة ولكن لا يستطيعون أن يُحدِّدوا، أمَّا الأولون فحددوا بناءً على الظاهر، وأما الآخرون فلم يحددوا بناء على الواقع، لأن الإنسان يفرق بين النوم اليسير والنوم الكثير، ثم قال بعضهم لبعض:
{ {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} } الوَرِق: هو الفضة كما جاء في الحديث: «وفي الرِّقةِ رُبْع العُشْرِ»[(7)] . كان معهم دراهم من الفضة.
{ {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} } تضمن هذا:
أولاً: جواز التوكيل في الشراء، والتوكيل في الشراء جائز، وفي البيع جائز أيضاً، فإن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وكَّل أحد أصحابه أن يشتري له أضحية وأعطاه ديناراً، وقال: اشتر أضحية، فاشترى شاتين بالدينار ثم باع إحداهما بدينار فرجع بشاة ودينار، فدعا له النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يبارك الله له في بيعه، فكان لواشترى تراباً لربح فيه[(
].
وقد أخذ العلماء من هذا الحديث أنه يجوز تصرف الفضولي، أي يجوز للإنسان أن يتصرف بمال غيره إذا علم أن غيره يرضى بذلك، فهؤلاء وكلوا أحدهم أن يذهب إلى المدينة ويأتي برزق.
ثانياً: في هذا أيضاً دليل أنه لا بأس على الإنسان أن يطلب أطيب الطعام لقولهم: { {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} }.
ثالثاً: فيه دليل أيضاً على ضعف قول الفقهاء: إنه لا يصح الوصف بالأفعل، أي لا يجوز أن أصف المبيع بأنه أطيب كل شيء، فلا تقول: «أبيع عليك برَّاً أفضل ما يكون» لأنه ما من طَيِّب إلاَّ وفوقه أطيب منه، ولكن يقال: هذا يرجع إلى العرف، فأطيب: يعني في ذلك الوقت وفي ذلك المكان، وهل من السنّة ما يشهد لطلب الأزكى من الطعام؟ نعم، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقرَّ الصحابة الذين باعوا التمر الرديء بتمر جيد ليطعم النبي صلّى الله عليه وسلّم منه[(9)]، ولم ينههم عن هذا، وما قال: هذا تَرَفُّه، اتركوا طلب الأطيب، فالإنسان قد فتح الله له في أن يختار الأطيب من الطعام أو الشراب أو المساكن أو الثياب أو المراكب، ما دام الله قد أعطاه القدرة على ذلك فلا يُلام.
{ {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} } يعني يشتري ويأتي به، فجمعوا بالتوكيل بين الشراء والإحضار.
{ {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} } أي يتعامل بخفية لئلاَّ يُشْعَر بهم فيؤذَون، وهذا يعني أنهم ظنوا أنهم لم يلبثوا إلاَّ قليلاً. ثم علَّلوا هذا؛ أي الأمر بالتلطف والنهي عن الإشعار بقولهم:
{{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا *}}.
أي أنهم لا بد أنهم يقتلونكم أو يردونكم على أعقابكم بعد إيمانكم { {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} } أي إذا عدتم في ملَّتهم أبداً، وفي هذا دليل على أخذ الحذر من الأعداء بكل وسيلة إلاَّ الوسائل المحرمة؛ فإنها محرمة لا يجوز أن يقع الإنسان فيها.
* * *
{{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا *}}.
قوله تعالى: { {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} } يعني مثل بعثهم من نومهم، فإن الله أعثر عليهم يعني أطلع عليهم قومهم.
{ {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} } أطلع الله عليهم قومهم { {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} } إما أن المعنى بقيام الساعة الذي كان ينكره هؤلاء أو لأن الله تعالى يُنجي المؤمنين من الكفار، لأن هؤلاء السبعة نجوا من أمة عظيمة تقاتلهم وتنهاهم عن التوحيد.
{ {وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا} }. { {وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا} } أي قيام الساعة. { {وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا} } أي لا شك، واقعة لا محالة.
{ {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} } متعلقة بأعثرنا، أعثرنا عليهم حتى تنازعوا أمرهم بينهم، تنازعوا فيما بينهم ماذا نفعل بهم؟ أنتركهم أم ماذا نصنع بهم؟
{ {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً} } يعني ابنوا عليهم بنياناً حتى يكون أثراً من الآثار وحماية لهم.
{ {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} } يعني توقفوا في أمرهم كيف يَبقَونَ ثلاث مائة سنة وتسع سنين لا يأكلون ولا يشربون ولا يتغيرون أيضاً.
{ {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} } وهم أمراؤهم { {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} } بدل من أن نبني بنياناً نحوطهم به ونسترهم به ولا يكون لهم أثر { {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} } أي لنجعلن عليهم مسجداً نتخذه مصلى، والظاهر أنهم فعلوا لأن القائل هم الأمراء الذين لهم الغلبة.
هذا الفعل، اتخاذ المساجد على القبور، من وسائل الشرك وقد جاءت شريعتنا بمحاربته حتى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال وهو في سياق الموت: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يُحذِّر ما صنعوا»[(10)].
ثم قال عزّ وجل مبيناً اختلاف الناس في عددهم:
* * *
{{سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا *}}.
سيقولون ثلاثة، أربعة، خمسة، كيف يمكن أن يكون قولان لغائب واحد؟ هذا يخرج على وجهين:
الوجه الأول: أن المعنى سيقول بعضهم ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقول البعض الآخر: خمسة سادسهم كلبهم، ويقول البعض الثالث: سبعة وثامنهم كلبهم.
والوجه الثاني: أن المعنى أنهم سيترددون؛ مرة يقولون: ثلاثة، ومرة يقولون: خمسة، ومرة يقولون: سبعة. وكلاهما محتمل ولا يتنافيان، فتَجدُهم أحياناً يقولون كذا، وأحياناً يقولون كذا؛ حسب ما يكون في أذهانهم.
قال الله تعالى: { {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} } قاله في الذين قالوا: { {ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} } و{ {خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} }، كلا القولين قال الله تعالى إنهم قالوه: { {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} } أي راجمين بالغيب، وليس عندهم يقين.
{ {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} } ولم يقل: رجماً بالغيب، بل سكت سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن عددهم سبعة وثامنهم كلبهم، لأن الله عندما أبطل القولين الأولين، وسكت عن الثالث صار الثالث صواباً، نظيره قول الله تبارك وتعالى في المشركين إذا فعلوا فاحشة: {{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا}} هذا واحد، {{وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}} هذا اثنان، قال الله تعالى: {{قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}} [الأعراف: 28] ، فأبطل قولهم: {{وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}} وسكت عن الأول؛ فدل على أن الأول: {{وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا}} صحيح، وهنا لما قال: { {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} } في القولين الأولين، وسكت عن الثالث دل على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
{ {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} } يعني إذا حصل نزاع فقل للناس: { {رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} } وهل أعلمنا الله بعدتهم؟
الجواب: نعم؛ أعلمنا بأنهم سبعة وثامنهم كلبهم، يعني فإذا كان الله أعلم بعدتهم فالواجب أن نرجع إلى ما أعلمنا الله به، ونقول جازمين بأن عدتهم سبعة وثامنهم كلبهم.