العربيّة : فضلها على العلم والمدنيّة , وأثرها في الأمم غير العربيّة
يوسف بن علي
11-Apr-2011, مساء 12:33
( الخطاب الذي ألقاه الأستاذ البشير الإبراهيمي نائب رئيس جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين في أحد أيّام اجتماعاتها العام الماضي , تفضّل الأستاذ بتقديمه لهذه المجلّة )
أيّها الإخوة الكرام :
كلّفني الأستاذ الرّئيس أن أحاضر هذا الجمع العربي الحاشد بكلمات في ناحية زاخرة من نواحي لغته الجليلة , وجانب عامر من جوانبها الفسيحة وهو فضلها على العلم والمدنيّة وأثرها في الأمم غير العربيّة ــ إشادة بفضل هذه اللّغة الشّريفة , في هذا الاحتفال العلمي ووفاء ببعض حقها علينا وحفزا لهممكم ـ وأنتم أبناؤها البررة ـ أن تُهن في خدمتها أو تُقصّر في حقّها , وإعلانا للمعنى الذي قامت جمعيّة العلماء بتحقيقه وهو إحياء هذه اللّغة وإحياء الدّين الذي ترجمت محاسنه واضطلعت بحمل أسراره .
ثمّ عهد إليّ الأستاذ أن أكتب ما ألقيه عليكم ليعمّ نفعه السّامعين والقارئين وأنّ هذا الموضوع الذي سلّمني الأستاذ الكتابة فيه موضوع علميّ تاريخي لا تّعْلقُ الحافظة بأسبابه كلّها ولا تقوى على جمع أطرافه وإنّما عماده البحث والتّنقيب وإقامة الشّواهد وحشد النّصوص وهذا ما لا يسعه وقت التّكليف وهو يومان تتخلّلهما فروض المجلس الإداري وواجبات جمعيّة العلماء ــ لذلك كلّه سلكت في الكتابة مسلكا أدبيّا يستمدّ من الخيال أكثر ممّا يستمدّ من الحقيقة ويعتمد على الخطابة أكثر ممّا يعتمد على البرهان ويرمي إلى إلهاب الحماس في نفوسكم أكثر ممّا يرمي إلى تقرير الحقائق فيها .
فإن بلغت رضاكم بما تسمعون فذلك وإن قصُرت عن الغاية كان ضيق الوقت وسعة الموضوع شفيعي في التّقصير .
أيّها الإخوة انشقت العربيّة من أصلها السّامي في عصور مُتوغلّة في القدم وجرت في ألسنة هذه الأمّة التي اجتمعت معها في مناسب المجد وأرومات الفخر وشاء الله أن يكون ظهورها في تلك الجزيرة الجامعة بين صحو الجوّ وصفو الدّو والمحبوّة بجمال الطّبيعة ومحاسن الفطرة لتتفتق أذهان عُمّار تلك الجزيرة عن روائع الحكمة مجلوة في معرض البيان بهذا اللّسان , وقد كانت هذه اللّغة تُرجمانا صادقا لكثير من الحضارات المُتعاقبة التي شادها العرب بجزيرتهم , وفي أوضاع هذه اللّغة إلى الآن من آثار تلك الحضارات بقايا وعليها من رونقها سمات , وفي هذه اللّغة من المزايا التي يعزّ نظيرها في لغات البشر الاتّساع في التّعبير عن الوجدانيات , والوجدان أساس الحضارات والعلوم كلّها .
وهذه المدنيّة التي يُردّد لفظها الألسن ويصطلح المؤرّخون على نسبتها إلى أمم مُختلفة ويُميّزون بينها بطوابع خاصّة ويشتدّ المُتعصّبون في احتكارها لأمّة دون أمّة خُلقت معها أو كأنّها ذاتيّة لها ــ هي في الحقيقة تُراث إنساني تُسلّمه إلى أمّة وتأخذه أمّة عن أمّة فتزيد فيه أو تُنقص منه بحسبِ ما يتهيّأ لها من وسائل , وما يُؤثّر فيها من عوامل , وخير الأمم أوفاها للمدنيّة هي الأمّة التي تُقوّي الجهات الصّالحة في المَدنيّة وتُكمّل النّقائص الظّاهرة فيها , وتسعى في نشرها وإشراك النّاس كلّهم في خيراتها ومنافعها ــ وخير اللّغات ما كانت لسانا مُبينًا للمدنيّة تُسهّل على النّاس سبيلها وتُمهّد لهم مقيلها .
وقد أصبح احتكار المدنيّة لأمم خاصّة تقليدا شائعا مُتعاصيا عن التّمحيص والنّقد ومن هذا الباب احتكار الغربيّين للمدنيّة القائمة اليوم , وما هي في الحقيقة إلاّ عُصارة الحضارات القديمة ورثها الغربيّون عمّن تقدّمهم , وقاموا عليها بالتّزيين والتّحسين والتّلوين وطبَعُوها بالطّوابع التي اقتضاها الوقت وانتحلوها لأنفسهم أصلا وفرعا , ولا تزال التّنقيبات عن مُخلّفات الحضارات القديمة تكشف كلّ يوم عن جديد يفضح هؤلاء المُحتكرين ويُقلّل من غرورهم .
ومن العجائب أنّ هذه الحضارة القائمة الآن تساندت في تكوينها وفي تلوينها عدّة لُغات مُختلفة الأصول ولم تستطع أن تقوم بها لُغة واحدة عل حين أنّ العربيّة قامت وحدها ببناء حضارة شامخة البُنيان ولم تستعِر من اللّغات الأخرى إلاّ قليلا من المُفردات .
أيّها الإخوان : ازدهرت حضارات الأمم القديمة من العرب وفارس والهند والصّين ومِصر ويونان والرّومان وزخرت عُلومها وكانت كلّها مبنيّة على أصول عامّة مُتشابهة وكانت لكلّ حضارة لُغتها المُعبّرة عن محاسنها والكاشفة عن حقائقها وكان لتلك اللّغات أثر بيّن في بقاء الحضارة وانتشارها وكلّ من بقاء الحضارة وانتشارها يتوقّف على ما في اللّغة من قوّة وحياة واتّساع فاللّغة من الحضارة جُزء لا كالأجزاء كاللّسان من البدن عُضو لا كالأعضاء , ثمّ اندثرت تلك المدنيّات والعلوم إلاّ ما بقي من آثار الأولى منقوشا على الأحجار وما بقي من آثار الثّانيّة مكتوبا في الأسفار , ولولا اللّغات لم نتبيّن من الحضارات ما تبينّاه .
أيّها الإخوان كانت الحضارات القديمة تقوم على تعبّد يسُدّ شُعور النّفس البشريّة بالخُضوع إلى قوّة أعلى منها فإن لم يكن هذا التّعبّد حقّا طغت عليه الخُرافة وأصبحت الخُرافة جُزءا من المدنيّة , وتقوم على تشريع يُوزّع العدل بين النّاس ويحفظ مصالحهم الدّنيويّة , فإن لم يستند هذا التّشريع على وحي سماوي أو نظام شُوري طغى عليه التّحكّم والاستبداد وأصبح الاستبداد جُزءا من تلك المدنيّة , وتقوم على نتاج القرائح البشريّة من علُوم فإن لم تكفُل هذه القرائح حُرّية شاملة لابسها التّزوير والكذب وأصبح التّزوير والكذب جُزءا من تلك المدنيّة , وتقوم على لُغة تسعُ تلك المدنيّة بيانا وإفصاحا فإن ضاقت اللّغة خسرت المدنيّة وإنّ حضارة اليوم لم تسلم من بعض هذه النّقائص والعيوب .
كانت هذه حال الحضارات إلى أن جاء الإسلام بالحضارة التي لا تبيد والمدنيّة المبنيّة على حُكم الله وآداب النّبوّة فكان التّوحيد أساسها والفضائل أركانها والتّشريع الإلهي العادل سياجُها واللّغة العربيّة النّاصعة البيان الواسعة الآفاق لسانُها , وبذلك كلّه أصبحت مُهيمنة على المدنيّات كلّها ووضع الإسلام هذه الحضارة الخالدة على القواعد الثّابتة ممّا ذكرناه .
وقامت اللّغة العربيّة ببيانها على أكمل وجه وكانت الأمّة المدّخرة لتشييد هذه الحضارة التي نُسمّيها بحق الحضارة الإسلاميّة هي الأمّة العربيّة .