شُغل رسولالله صلَّى الله عليه وسلم أول مستقره بالمدينة بوضع الدعائم التي لا بد منها لقيامرسالته، وبناء دولته، وتأمين دعوته وتتبين معالمها في:
1- صلة الأمةبالله.
2- صلة الأمةبعضها بالبعض الآخر.
3- صلة الأمةبالأجانب عنها، ممن لا يدينون دينها.
(1) صلة العبدبربه:
صلة العبوديةالحقة تقوم على إفراد العبادة لله وإخلاص الدين لله وحده لا شريك له، والاعتقادبأنه رب العالمين، وأنه الإله الحق، الذي يخلق ويرزق، ينفع ويضر، يحي ويميت، يعزويزل، لا إله غيره، وتخشع له القلوب، وتتوجه له الأنفس، صلة مباشرة بين العبد وربه،لا سلطان لأحد عليها، ولا وساطة لأحد فيها، إذا توطدت وتعمقت، كان أول مظاهرها عندالعبد ألا يذلَ إلا لله، ولا يستعن إلا بالله، ولا يتوجه إلا إلى الله، ولا يعملإلا ابتغاء مرضات الله، وهذا ما أراده النبي عند وصوله المدينة أن يقوي صلة المسلمبربه.
أول عمل في الإسلام مسجدللصلاة:
لذلك كان أولعمل للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، هو بناء المسجد، ليقوي الصلة بين العبدوربه، فالصلاة صلة الأرض بالسماء، صلة المخلوق بالخالق، صلة المرزوق بالرازق، وكانالبناء متواضعًا، سقفه من الجريد، وفرشه من الحصى، وأعمدته من جذوع النخل، إذا هبتالريح أخذت سقفه، وإذا أمطرت السماء أوحلت أرضه، وإذا تفلتت القطط عبثت فيه، ومعذلك خرج عمالقة البشر، ومؤدبو الجبابرة، خرج صحابة رسول الله، أبو بكر الصديق، وعمرالفاروق، وعثمان الحيي ذو النورين، وعلي بن أبي طالب رجل يحبه الله، وباب مدينةالعلم، أبو عبيدة أمين الأمة، وابن عباس حَبر الأمة، خالد بن الوليد سيف الله، حمزةأسد الله، وغيرهم كثيرون رضوان الله عليهم جميعًا، تربوا في المسجد، فقادوا بحبهملله، وسادوا بقربهم من الله.. وصدق الله﴿فِيبُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُفِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَابَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَيَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)﴾ (النور).
صلة قوية،صلة التطهر، صلة التقوى..!! ﴿لَّمَسْجِدٌأُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِرِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّالْمُطَّهِّرِينَ(108)﴾ (التوبة)، صلة من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمهافقد هدم الدين بأسره.. هي القمة"رأس الأمرالإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله"الإسلام.. الصلاة.. الجهاد.. كيف حال الأمة مع الثلاثة الآن؟ الحال أبلغ من المقال..!! إذاأصيب المرء في عموده الفقري– اللهم اشف كل مريض– هل يستطيع أن يتحرك؟ كذلك إذاأصيبت الأمة في الصلاة لا تقم لها قائمة..!! وإلا ماذا تصف حال الأمة الآن؟ المصاحفتشكو الله هجرها، والمساجد تشكو الله قلة عُمارها، السَّحر يئن من قلة الساجدين،والإسلام يئن من قلة العاملين!!
إن أول مايسأل العبد عنه يوم القيامة الصلاة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "إن أول ما يحاسب بهالعبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خابوخسر، وإن انتقص من فريضة قال الرب انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص منالفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك".
والصلة هيصيانة!! الإنسان أعقد آلة تدب على الأرض، يحتاج صيانة، ويتطلب رعاية، من يأتيبصيانته؟ ومن يتولى رعايته؟ ومن يحسن صياغته؟ إنه الله﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُالْخَبِيرُ(14)﴾ (الملك).. كيف..؟! عن طريق الصلاة﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِوَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾ (العنكبوت)، إنها صيانة المؤمن، فلا يمشي في الطريق غير السوي، لا يلبي نداءالشيطان، ولا يستجيب لرغبات النفس وأهوائها، ولا ينساق لشهوات الدنيا ورغباتها، ولايبغي مع البغاة، ولا يفسد مع الفاسدين، ولا يظلم مع الظالمين، إنما يتعلم من حبيبهصلى الله عليه وسلم، أن يتبرأ من حوله وقوته إلى حول الله وقوته، وأن يسجد لله فيالأرض، ويقول كما قال"سجد وجهي للذي خلقهبقدرته، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، تبارك الله أحسنالخالقين".
صلة هي مصدرللقوة النفسية والروحية والبدنية: العبد تعتريه شدائد، تلفه هموم، تحيطه ضوائقيتعرض في حياته لكثير من الصعاب، قوى الشر، عناصر الفساد، دنيا تغره، ونفس تنازعه،وشيطان يضله، ومؤمن يحسده، ومنافق يبغضه، وكافر يقاتله، والإنسان بطبعه ضعيف لايستطيع وحده أن يقاوم عناصر الشر وقوى الفساد، فإذا لجا إلى ربه، يتبرأ من حولهوقوته إلى حول الله وقوته، يستمد منه الحول والقوة، ويطلب منه العون والكفاية،ويرجو منه الحفظ والرعاية، وعندها تتضاءل أمامه قوى الشر مهما عظمت، وتنهزم لهعناصر الفساد مهما كثرت، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلىالصلاة، وكان يقول أرحنا بها يا بلال، وذلك معنى قول الله﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾(البقرة: منالآية 45).
والصلاة تطهرالنفس وتزكيها، تنمي فيها الخضوع والخشوع والمراقبة لله عزَّ وجلَّ.. يقول اللهعزَّ وجلَّ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّالصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُوَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾ (العنكبوت).
صلة هي قوةفي حالات الضعف..!! الأمة في حالات الاستضعاف تحتاج إلى معين، لتستعيد عافيتها،وتنهض من كبوتها، وتترسم طريقها، وليس هناك معين أفضل من الصلاة، والقرب من الله﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)﴾ (البقرة)، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الكعبة، فجاءهالملعون أبو جهل- وكم من أبو جهل الآن- روى الإمام أحمد والبخاري عن ابن عباس قال: يجب أن لا ينفك المؤمن عن هذه الصلة: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدًا يصلي عند الكعبةلأطأن عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لو فعل ذلك لأخذتهالملائكة عيانًا" وفي رواية عنه قال: مر أبو جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهويصلي فقال: ألم أنهك أن تصلي يا محمد.. ماذا فعل النبي؟ أيمتثل لأمر الطغاة الذينيصدون عن سبيل الله؟ كلا..! إنما جاءه الأمر من الله عزَّ وجلَّ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَاصَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَيَرَى (14) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍكَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَه (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)﴾ (العلق)، لا تطعه يا محمد،لكن اقترب من ربك عن طريق الصلاة، ومن لا يقترب يبتعد، ومن لا يخشع لا يقترب، ومنلا يزيد إيمانه ينقص، لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية،﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)﴾، وأمر الله صحابة رسول الله﴿كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾ (النساء: من الآية 77)، وكما قيل لبني إسرائيل في مجابهة فرعون﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَالِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْالصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)﴾ (يونس).. وما أكثر الفراعنةالذين يصدون عن سبيل الله.. وما أحوجنا إلى إقامة الصلاة، وأدائها والحفاظعليها.
قم إلىالصلاة مهما تكن الظروف: الصلاة لا تسقط أبدًا.. في السلم والحرب، في السفروالمقام، في الفقر والغنى، في الصحة والمرض، في القوة والضعف، لا تسقط الصلاةأبدًا.. لماذا؟ لأنها إذا سقطت فقد وهت صلتك بالله، أنت في حاجة إلى الله في كلأحوالك، أنت فقير تحتاج إلى غني، أنت ضعيف تحتاج إلى قوة، أنت ذليل تحتاج إلى عزة،أنت غني تحتاج إلى هادٍ لتصرف غناك في طاعته.. وهل هناك أغنى وأقوى وأعز من الله؟﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِيالْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاءوَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍقَدِيرٌ(26)﴾ (آل عمران).. أما إذا وهت صلتك بالله فأنت لا قيمة لك، بل أنتفي مهب الريح﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِفَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِالرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ(31)﴾ (الحج).
عن أنس أنرجلاً جاء فدخل الصف وقد حفزه النفس فقال الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًافيه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال"أيكم المتكلم بالكلمات؟"فأرم القوم، فقال"أيكم المتكلم بالكلمات؟"فأرم القوم، فقال"أيكم المتكلم"بها، فإنه لم يقلبأسًا، فقال رجل: جئت وقد حفزني النفس فقلتها، فقال"لقد رأيت اثني عشر ملكًا يبتدرونها أيهم يرفعها"، رواهمسلم، وفي رواية البخاري: عن رفاعة بن رافع قال: كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليهوسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال سمع الله لمن حمده، فقال رجل وراءه ربنا ولكالحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه فلما انصرف قال"من المتكلم آنفًا"؟ قال أنا، قال"رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول"صحيحرواه البخاري.
فلتقل ماتشاء ولتدعو ما تشاء هذه هي الصلاة يقف الناس بين يدي ربهم يخشعون له، ويخضعون لهويتجهون له، لا لشرقي أو غربي، لا لأحمر ولا لأبيض، لا لذهب ولا لفضة، وإنما فقطلله عز وجل.
وأداء الصلاةولد أيضًا في المدينة: لما فرضت الصلاة احتاج المسلمون إلى النداء للصلاة، كيف؟!! عن نافع: أن ابن عمر كان يقول: كان المسلمون يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس يناديبها أحد، فتكلموا يومًا في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى. وقال بعضهم: بل قرنًا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أو لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بلالقم فناد بالصلاة"رواه أحمد والبخاري.
وعن عبد اللهبن زيد بن عبد ربه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس ليضرب بهالناس في الجمع للصلاة. وفي رواية، وهو كاره لموافقته للنصارى، طاف بي، وأنا نائمرجل يحمل ناقوسًا في يده. فقلت له: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: ماذا تصنع به؟قال: فقلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قال: فقلتله: بلى. قال: تقول: "الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا إلهإلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسولالله. حي على الصلاة، حي على الصلاة. حي على الفلاح، حي على الفلاح. الله أكبر اللهأكبر، لا إله إلا الله"، ثم استأخر غير بعيد ثم قال: "تقول إذا أقيمت الصلاة: اللهأكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله. حي علىالصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر، لاإله إلا الله". فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت. فقال: "إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم معبلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتًا منك"، قال: فقمت مع بلالفجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال: فسمع بذلك عمر، وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي أرى. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلله الحمد"رواه أحمد وأبو داودوابن ماجه وابن خزيمة والترمذي وقال: حسن صحيح رواه أبو داود وابنماجه.